فجعنا، والحزن والأسى، يعمنا، بتغييب الموت عنا، رفيقنا وصديقنا العزيز والمفكر اليساري العراقي المعروف د. كاظم حبيب يوم أمس المصادف 30 / 8 / 2021 بعد إصابته بنزيف في الدماغ لم يمهله طويلاً.
لقد حمل الدكتور كاظم، مع رفيقاته ورفاقه المناضلين، راية النضال في سبيل الحرية والديمقراطية والاستقلال والسيادة الوطنية، في سبيل السلام والصداقة والتضامن الأممي ومن اجل العدالة الاجتماعية منذ الخمسينات من القرن الماضي، وبقي طوال حياته النضالية أمينا لشعبه والطبقة العاملة والفلاحين وسائر شغيلة اليد والفكرولم يدر ظهره للحقيقة مهما كلفه الامر. يقول المفكر كاظم حبيب : (بدأ وعيي السياسي الأول يتفتح على الحركة الطلابية والحركة السياسية العراقية وانا في الرابعة عشر من عمري، وقد اقترن ذلك بوثبة كانون الثاني 1948. لقد كانت الحياة مليئة بالحركة والعنفوان وروح التمرد الشبابية على العادات والتقاليد والأعراف البالية تموج في نفوسنا الشبابية وتتطلع إلى حياة جديدة فيها الجديد من معاني الحرية والديمقراطية والعمل وضد البطالة والفقر والحرمان والاستفادة من ثروات البلاد لصالح المجتمع) .
لقد رفض د. كاظم الحروب، كل الحروب والعسكرية والدكتاتورية والفاشية، وأدانها، وناضل في سبيل السلام ورفض الغزو الامريكي للعراق وشجبه بقوة، وأدان الاحتلال والطائفية السياسية ونظامها السياسي ومحاصصاتها المقيتة، واحتج بحزم على وجود وإرهاب المليشيات الطائفية المسلحة كافة وعدوانها على اتباع الديانات والمذاهب، وناضل ضد التمييز بمختلف أشكال ظهوره.
عمل الفقيد مع منظمات المجتمع المدني، ولاسيما منظمات حقوق الانسان وهيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق، ضد احتلال الموصل وأدان بشدة جرائم حوش داعش وما حصل للإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان من عمليات إبادة جماعية وتطهيرعرقي وديني في محافظة نينوى ومناطق اخرى من العراق.
كما أدان بشدة جرائم الانفال (الإبادة الجماعية) وكتب بحوث ومقالات عديدة كشاهد عيان على تلك الجرائم البشعة.
كان يقول لنا دائماً: (أشعر أن ديناً كبيراً في أعناقنا نحن في العراق إزاء ضحايا الأنفال وحلبجة، وعلينا أن نعمل من أجل الإيفاء بهذا الدين بكل ما يمكن تقديمه لعائلات الضحايا وأهالي حلبجة).
التقيته لأول مرة وأنا صبي صغير:
حين يعود الإنسان بذاكرته إلى أيام النضال الصعبة في العراق في ظل الحكومات العراقية المتعاقبة، يتذكر دورونضال د. كاظم من اجل قضايا الشعب ابتداءً من النصف الثاني من سنوات العقد الخامس من القرن العشرين.
التقيته لاول مرة وأنا صبي صغير، حين جاء بزيارة لبيتنا في اربيل في اواسط السبعينات، حيث كان رفيقاً وصديقاً مخلصاً للشهيد عادل سليم وقضى معه سنوات عديدة في المنفى في مدينة (بدرة) على الحدود العراقية الإيرانية في اواسط الخمسينات من القرن الماضي.
كان الدكتور جاد وجدي في عمله حتى اخر لحظة من حياته، كان يتحرك مع پيشمرگة الحزب الشيوعي العراقي في الثمانينات من القرن الماضي في جبال كوردستان كعضو فعال في حركة الأنصار – الپيشمرگة. وكان له دور فعال في الاعلام المركزي التابع للشيوعي العراقي. وعليه لا يمكن للحركة الشيوعية أو القوى الماركسية واليسارية في العراق والدول العربية أن تنسى دور د. كاظم في عملية التنوير الفكري والسياسي، ولا يمكن للشعب الكوردستاني ان ينسى هذا المناضل العنيد الذي دافع عنه بإصرار وعزيمة ووقف مع الشعب الكوردستاني وناضل من اجل حقوقه المشروعة دون كلل.
خلوة مع النفس بصوت مسموع :
بين فترة وأخرى كان المفكر كاظم حبيب يكتب مقالاً بعنوان (خلوة مع النفس بصوت مسموع)، إلا ان خلوته الاخيرة كانت تختلف تماماًعن خلواته السابقة، وهي بمثابة وصيّته الاخيرة تنبّأ فيها برحيله قبل وفاته باسبوع بالتمام والكمال .
كتب الدكتور في خلوته او بالاخرى وصيته تحت عنوان (في اليوم العالمي 21/08/ لإحياء الذكرى السنوية لضحايا الإرهاب في العالم، وكذا العراق)، يقول فيها : (في هذه الخلوة مع النفس مرّ أمام ناظريّ وأنا مستلقٍ، أشبه بشريط سينمائي لخص الحياة السياسية العراقية لسبعين عاماً ونيف، منذ أن ارتبطت لأول مرة بالحركة الطلابية العراقية بعد مؤتمر السباع عام 1948 بثلاث سنوات تقريباً، في عام 1951. لقد كانت فترة غنية بالأحداث النضالية المتسارعة، ذاكرة ما تزال طرية والأسماء والمواقع والأشياء، الزمان والمكان حاضران، لم تختفِ بعد ولم يغط الغبار خلايا الدماغ الرمادية بعد ..أخلو إلى نفسي، كما يفعل الكثير من البشر، واعود بذاكرتي إلى عقود وسنوات خلت، عقود من حياتي السياسية التي بلغت حتى الآن سبعة عقود بالتمام والكمال، أي والخلوة مع النفس لا تخلو من نقد أو حتى جلد الذات لأخطاء ارتكبها أو ارتكبت بحقه أو بحق الآخرين أو فشل مرَّ به الإنسان أو المجتمع وكذلك عن نجاح تحقق له أو للمجتمع. إنه حساب مع النفس ومع الآخر).
يستطرد دكتور كاظم قائلاً: (في هذه الخلوة، وفي عمر السادسة والثمانين "ربيعاً أو قل خريفاً"، تختلف الأحداث والصور عن خلوات أخرى حين يكون الإنسان في عمر الثلاثين أو الأربعين، إذ تكون أكثر عاطفية وأكثر شفافية وأكثر صراحة مع النفس والناس.. كم مرة أخطأت أثناء حياتي السياسية المديدة .. وهل هناك من لا يخطأ حين يمارس السياسة في بلد مثل العراق وأوضاعه الشاذة دوما .. وكم سعيت للتعلم من أخطائي .. من كان منكم بلا خطيئة فليرمني بحجر ! أكثر القرارات صواباً ذاك الذي اتخذته في استقالتي عام 1990 من عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، إذ وجدت اننا ارتكبنا أخطاء كبيرة، وأنا منهم، ومن الأصوب أن يذهب أغلبنا وأن يأتي للموقع من هو أفضل مني ومن غيري ولم يرتكب ذات الأخطاء التي ارتكبناها معاً خلال الأعوام المنصرمة .. هذا درس مهم للجميع إذ لا يكفي الاعتذار عن تلك الأخطاء، رغم أهميته وضرورته، بل ينبغي أن يكون مبدئياً صارماً لاسيما من هو في مواقع المسؤولية في الحزب .. الأخطاء ممكنة، ولكن كيف نتعامل معها ونتجنب وقوعها ثانية .. هل تعلمنا من درس التحالفات السابقة مثلاً، وهل ساعدتنا في تجنب تحالفات غير مناسبة أخرى أصلاً، وهل تجاوزنا مرحلة المجاملات السياسية مع من ينتهك حرمة الشعب والوطن ويسمح باستباحتهما ونبقى نناديه بـ"كنيته المحببة !" ؟ فهل هذا معقول مثلاً ؟ هذا الدرس الثقيل الذي مررنا به يجب أن يبعدنا عن تحالفات مماثلة مع قوى مماثلة من حيث التطرف والتشدد والقسوة والاستبداد، تلك التي تحمل بيدها "أسيافاً مرهفةً" لتقطع بها رقاب الناس!)
ويضيف: (في هذه الخلوة القاسية ارتفع صوت شجي لصديقي ورفيقي الفقيد فؤاد سالم يشكو دهره : "دگيت بابك يا وطن وأنا غريب ببابك .. بس گلبي يسمع دگتك.. أرضى يذلني اعتابك .. خايف لا العمر يگضی .. وخوفي ما نوصل وطنا .. ولو وصلنا هناك خايف نلگه خلصانه أهلنا .."! حين غرَّد هذه الأغنية المرهفة والحزينة في مدينة ديترويت، كنت حاضراً في هذا الحفل الواسع حضره ما زيد عن 700 عراقية وعراقي، سالت فيه الدموع وهم يستمعون إلى كلمات الأغنية واللحن الحزين والصوت الشجي، فتذكرت لقائي به في خريف عام 1978 حين اشتكى لي "هاي ليش الدنيا هيجي ويّانه رفيق أبو سامر، "وين ما نروح بگبورنه عظام !!". كان فؤاد سالم يستعد لمغادرة العراق إلى الغربة بموافقة حزبه الشيوعي، لم يعد بعدها للعراق إلا في زيارة نادرة إلى أربيل بدعوة للمشاركة في واحد من مهرجانات المدى الثقافية الرائعة، حيث التقيته هناك أيضا . في مقر الحزب المركزي ببغداد بلغته في حينها بموافقة الحزب على مغادرته للعراق قبل أن يقع في أيدي الطغاة البعثيين، كما أخبرت أخرين من مبدعي العراق بالمغادرة قبل فوات الأوان).
يقول الدكتور في نهاية خلوته: (ليتني أسطيع بعث الوعي في بعض الجماجم لأريح البشر المخدوع من شر البهائم وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائم من مآسي تقتل الحق وتبكي أين حق ؟
يا ذئاباً فتكت بالناس ألاف القرون أتركيني أنا والدين فما أنت وديني أمن الله قد استحصلت صكاً في شؤوني وكتاب الله في الجامع يشكو أين حقي؟
وفتاة ما لها غير غبار الريح سترا تخدم الحي ولا تملك من دنياها شبرا وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا وإذا الحفار فوق القبر يدعو أين حقي؟
أئمة جوامع وحسينيات، سحرة ودجالون، خرافيون وأفاكون وفاسقون قادمون من قرون بعيدة شبيهة بالقرون الوسطى الأوروبية، بعثيون "توابون!" كذابون يعيثون فساداً وإفساداً في صفوف الأحزاب الإسلامية السياسية ويعملون في قيادات الميليشيات الطائفية المسلحة ويمارسون السرقة والقتل باسم الدين، فصحت عليهم أهزوجة الشارع العراقي "باسم الدين باگونة الحرامية"!! في بلادي يُقتل المفكرون والمثقفون والعلماء والمهندسون والأدباء والوطنيون ... يُقتل الأطباء لأن الدولة أو أصحاب التوظيفات المالية في المستشفيات الخاصة لا يوفرون ما ينبغي أن يتوفر في المستشفيات من تجهيزات وصيانة وحماية وأدوية ... إلخ، فيُغضِب ذلك عائلات المرضى من موت ذويهم ويكون الثأر المتعسف والأحمق والأجهل ضد الأطباء .. . في بلادي مات الملايين من البشر خلال الستين سنة المنصرمة بسبب رثاثة الفكر القومي الشوفيني والديني الطائفي الرجعي والسياسة والثقافة المتخلفة، بسبب الاستبداد والحروب والحصار والفساد والدجل، بسبب الفقر والتخلف والوعي الزائف).
اخيرا:
حتى أيامه الأخيرة كان د.كاظم يحمل هم الوطن كله، هم العراق وشعب العراق، هم كوردستان وشعب كوردستان، هم الإنسان العراقي والعربي المبتلي بالحكومات المستبدة، هم وجود قوى غير إنسانية على رأس السلطة في دول الشرق الاوسط.
كانت اللقاءات به كلها ممتعة ونقاشاته رصينة تدور حول همومه العامة وليس الخاصة.
فقدنا د.كاظم حبيب، الرفيق والأخ والصديق والمناضل، ولكن ترك خلفه ارثاً كبيراً غنياً من كتبه ومؤلفاته ومقالاته في شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وغيرها وتجربة غنية يمكن للحزب الشيوعي العراقي والحركة اليسارية والديمقراطية العربية والحركة التحررية الكوردستانية ان تستفيد منها في نضالها المرير من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية في المرحلة الراهنة وفي المستقبل.
سيبقى المفكراليساري د. كاظم حبيب ونضاله البطولي شعلة وهاجة، كشعلة بقية شهداء الوطن والحركة الوطنية والديمقراطية واليسارية العراقية والكوردستانية والعربية والدولية، تنير درب المناضلين من اجل الوطن والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.كاظم حبيب : مفكر وسياسي يساري عراقي وأحد العاملين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني وحقوق المرأة والسلام في العالم. ولد بمدينة كربلاء في 16/4/1935.درس الابتدائية والمتوسطة والثانوية فيها.التحق مبكراً بالحركة الوطنية العراقية، وبالحزب الشيوعي العراقي منذ العام 1952. أصبح عضواً في اللجنة المركزية في العام 1972، وعضواً في المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في العام 1985 حتى عام 1989 . في العام 1990 قدم استقالته من اللجنة المركزية للحزب، وقبلت في العام 1993.سجن وأُبعد في العهد الملكي في الفترة 1955-1958 إلى بدرة لأسباب سياسية. أطلق سراحه في 06/06/1958. أكمل دراسة الإعدادية في كلية المقاصد الإسلامية بمدينة طرابلس/ لبنان بتفوق في العام 1959.درس اللغة الألمانية في معهد غويته في بادأيبلنك بألمانيا الاتحاد في العام 1959. درس الاقتصاد في كلية الاقتصاد ببرلين بزمالة دراسية من اتحاد الطلبة العالمي، وحاز على درجة البكالوريوس، ومن ثم الماجستير (رسالة الماجستير حول اقتصاد النفط بالعراق في العام 1964) . حصل على شهادة الدكتوراه من ذات الكلية في شباط من عام 1968، وكان موضوعها "طبيعة إجراءات التأميم في جمهورية مصر العربية". حصل على درجة الدكتوراه علوم (هابيل) DSc في عام 1973. من كلية الاقتصاد ببرلين/ المانيا الديمقراطية حول اقتصاد الحبوب بالعراق.عين في العام 1968 مستخدماً بأجور يومية في قسم الاقتصاد الزراعي التابع لوزارة الزراعة.عين في العام 1969 بدرجة مدرس في الجامعة المستنصرية قسم الاقتصاد. منح درجة أستاذ مساعد عام 1973. نسب للعمل كعضو متفرغ في المجلس الزراعي الأعلى بدرجة خاصة ابتداءً من العام 1975 حتى العام 1978. اُعتقل في العام 1978 من قبل مديرية الأمن العامة ببغداد بقرار مباشر من صدام حسين. عذب في المعتقل ثم أطلق سراحه بعد ان فشلوا في انتزاع ما يريدونه منه . أحيل على التقاعد أثناء وجوده في المعتقل بدون راتب تقاعدي وبتخفيض درجتين وظيفيتين لأسباب سياسية. غادر العراق في نهاية 1978 بقرار من المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراق إلى الجزائر. عين في العام 1979 أستاذا مساعداً في معهد العلوم الاقتصادية التابع لجامعة الجزائر العاصمة. منح في العام 1980درجة أستاذ واستمر في التدريس حتى نهاية العام الدراسي 1981.درس طلبة الماجستير والدكتوراه في معهد الحقوق في جامعة الجزائر العاصمة بين 1979-1981. غادر جامعة الجزائر وتوجه إلى كوردستان العراق للمشاركة في حركة الأنصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي منذ نهاية العام 1981 حتى نهاية 1984، ثم شارك في الحركة مرة أخرى بين عامي 1987-1988.انتدب ممثلاً عن الحزب الشيوعي العراقي في هيئة ومجلس تحرير مجلة الوقت (قضايا السلم والاشتراكية) ببراغ/تشيكوسلوفاكيا بين نهاية عام 1984 وعام 1988. أصدر أكثر من 35 كتاباً وكراساً والكثير من الدراسات والبحوث وآلاف المقالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وفي مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني باللغة العربية وبعضها باللغة الألمانية، كما ترجم معظم مقالاته إلى اللغة الكوردية .
التعليقات