لست نطاسياً سياسيا أو مصلحا اجتماعيا او معالجا سحريا يقدّم وصفاتٍ مبتكرة ناجعة لانتشال بلداننا من أوضاعها المزرية، ولم أكن أطمح يوما ما على كرسيّ وزاري أو حظوة في السلطات الثلاث باستثناء طموحي لألعب دوراً ما في السلطة الرابعة ضمن صحافتنا؛ غير اني أضع نقاطا عامةً دون ان انغمس في التفاصيل تبدو لي علاجية مطببة من خلال مشاهداتي طوال أكثر من ستة عقود عشت فيها متأرجحا بين أنظمة حكم متهتكة وفاسدة ودكتاتورية الى حدّ الإيغال في الاستخفاف بالمواطنة؛ مثلما عشت أنظمة مدنية راقية انتهجت أسلوب الديمقراطية والمواطنة الحقة ورأيت وتلمّست الفرق بين مجتمعنا المتخلف الموغل في استهتاره بالإنسان وبين أنظمة راقية هدفها رفع شأن أبناء وطنها وإيصال مواطنيها الى حدود سليمة مرضيّ عنها من السعادة وتحقيق المساواة والاستئناس بالشعب وما يريد باعتباره مصدر السلطات الثلاث التي تجهد في تقديم أقصى الخدمات له.
لا أدّعي أني استللت عشبة جلجامش من فم الأفعى عنوةً وعن طريق التحايل كما يوصف السرّاق المحنّكون بأنهم قادرون على أخذ العلكة من أفواه المغفلين او قمت بخلق حيوان "تيولا" الذي يزعم علماء البايالوجي انه الكائن الحيّ الوحيد بين كل مخلوقات الدنيا لا يموت ولا يفنى ابدا وحالما تنتهي فترات شبابه يعود مجددا الى طفولته ولا يمر ابدا في مرحلة الشيخوخة وهكذا دواليك سنة اثر اخرى اذا لم يتعرض هذا التيولا للقتل عمدا وقصدا؛ ولست خطيبا واعظا ناصحا كما قال الإمام علي في فورات غضبه أمام الملأ في احدى خطبهِ وهو يزفر أسىً لأنه يعرف بانّ نصائحه ستضرب عرض الحائط حينما قال أمام جمعٍ من أهل الكوفة: "احفظوا عني خمسا ولو شددتم اليها المطايا حتى تنضوها لم تظفروا بمثلها....".
فكل ما أقوله هي معايشات أدركتها ولمستها في معظم بلداننا العربية الرازحة تحت أحكام تعسفية ذات حكم واحد او دكتاتوريات ضاربة في القِدم والمراس في قهر شعوبها كما عشت في ربوع بلدان تقدّس مواطنيها وتعطيه حقوقه على طبق من ذهب وهو بدوره يعرف واجبه تجاه نظامه الذي يختاره بنفسه وينتقي ممثليه بصناديق الاقتراع.
ولكي أكون دقيقا وأضع النقاط على الحروف توضيحا أدرج هنا أهم الاجراءات التي علينا القيام بها فقرةً فقرة عسى ان نرتقي اول سلالم التغيير والنماء العقلي اعتمادا على الإضاءة التنويرية التي استرشدَ بها العالم المتحضر قبلنا وجعل مجتمعه في مصافٍ يحسد عليه خاصةً من نخبة مثقفينا ومخلصينا الطامحين ان يكون مجتمعهم قريبا من المجتمعات الناهضة او على الأقل يلامس شيئا من الازدهار في العالم المتمدن.
وما هذه النقاط المدرجة تاليا الاّ خطوط عامة ولبنة أساسية للتغيير للارتقاء بمدارج مجتمعنا ولو بتوئدة وخطى بطيئة وهي افضل بكثير من ان نبقى في القاع وحتما ستتبعها تفصيلات واجراءت لابد من اعادة النظر فيها وتجديدها بين حين واخر وفق متغيرات الزمن ومدى الحاجة لها وتقديم الأولويات على التاليات والأقل أهمية.
1- أولى بوادر النأي عن التخلف هو النظر بعين فاحصة الى حاضر ومستقبل وضعنا وغضّ الطرف عن الماضي وإشكالاته وبالأخص المختلف لا المؤتلف من اجل ترميم حاضرنا الحالي وإعادة ترتيبه بالشكل الذي نضع تصورا واضحا لما سيؤول الينا المقبل الحسن ويكون هذا الامر بالاعتماد على قيادات مخلصة مبتكرة متفانية ولا شائبة عليها ومحمّلة بفكر حضاري على الصعد السياسية والاقتصادية وترسيخ بناء فوقي يؤمن بالإنسان وحده دون اية مراعاة لمعتقده وعِرقه وانحداره ومنبته، اذ ان كل انسان له قدراته الخلاقة العقلية الابتكارية بعيدا عن نزوعه الديني والقومي واللون وما الى ذلك من المعوقات التي تشل الابتكار والإبداع وصنع الانسان الحقيقي لو انشغلت بها عقولنا.
2- اعلان الحرب على الصنمية البشرية وتقديس الشخوص الانسانية وصنع الدكتاتوريات وعبادة الشخصيات سواء كانت من الزعامات السياسية ام الدينية او القبلية ونبذ فكرة هذا تاج الرأس وذاك المرشد؛ فالتقديس أحرى به ان يكون للعقل ونتاجه الايجابي البنّاء والاعتبار للأذكياء وحاملي لواء العلم ذي الهدف التنويري الحضاري من خلال رفع شأن المواطنين المبدعين نساءً ام رجالا على السواء وإعطاء كامل الاهتمام للمثقفين والثقافة وإيلاء الدور لها ولرعاتها فهم خير منقذ لترسيخ مدنية وحضارة حديثة تتماشى مع عصرنا الحالي الداخل في الالفية الثالثة لو أدركوا تأثيرها ومنافعها والاّ فما قيمة الثروة ان لم تكن تجري في قنوات التغيير نحو الأحسن وتغذية الإبداع والمبدعين وتنوير العقل وانتشاله من براثن الجهل والخرافة والغيبيات والشعوذة.
3- استئصال ثديَـي القومية والعقيدة الدينية وما يتبعهما من نرجسية عِرقية أو مذهبية باعتبارهما يغذيان التخلّف وأساس بروز النزاعات العقائدية والمذهبية والعرقية سواء كانت في الداخل (وسط مجتمعاتنا) او في الخارج بين الدول المتجاورة، فاذا وجد هذان المرتعان بين ظهرانينا تتوالد الكراهية والنظرة الفوقية وتزداد العداوة وتتعثر المساواة والعدالة التي هي اساس المواطنة الحقة في المجتمعات المدنية، صانعة للإنسان المتسامح وبدلا من تحويل الأديان من عقائد ملأى بالعصبية والنرجسية وايدولوجيات مشحونة عنفا وتدميرا؛ ففي الإمكان جعلها تيارات روحية واسعة الصدر وفق نظرة المحاباة بدلا من المعاداة.
4- لتكن الثروات النفطية والمدخولات في جزئها الاساسي في خدمة العقل ونمائه لاجل رفع مستواه ليكون في مصاف العقول المتحضرة من اجل إنضاج فكر تنويري عقلاني وتشييد بناء فوقي رصين وايلاء الثقافة والمثقفين وأهل العلم والادب والفن المتميزين اهتماما استثنائيا؛ فمن العيب والهوان ان نردد في أوساطنا المتخلفة "ان أنكر الاصوات لصوت المثقف" ولنصغِ الى ما يقول ويشير ونكون طوع أمره في اول خطوة يخطوها بدءا من تغيير مناهجنا الدراسية إلغاءً او إضافةً واستزادة من المناهج الحديثة المعاصرة وتعديل المعوجّ منها ثم القضاء تماما على الاميّة ورفع فؤوسنا للإطاحة بأهرامات الجهل المعرشة على العقول وصولا الى بلورة ثقافة عليا أعلى الهرم للبناء الفوقي؛ وليس غريبا ان تكون الثقافة ثروة تكاد تفوق الثروات النفطية وتكون مصدرا مدرّاً للمدخولات على المديات البعيدة والأبعد وامامنا عدة دول حذت حذوها نحو النماء والرقي والتحضر والثراء حينما اتجهت للمدنية الحديثة والوسائل العلمانية من اجل النهوض بمستواها كونها قريبة الشبه بمجتمعاتنا مثل ماليزيا وسنغافورة ودول اخرى اللائي حققن ازدهارا واستقرارا سياسيا واقتصاديا بشكل ملحوظ.
5- توسعة وإنماء البناء التحتي وخلق قواعد صناعية وزراعية لتحريك المجتمع نحو تفجير طاقاته الانتاجية وخلقها بيده وايجاد مصادر طاقة بديلة عن النفط بهدف التخلص من النظام الاقتصادي الريعي الاخرق وتشكيلها بعقله وامتصاص البطالة الهائلة التي زادت نسبتها الى حدّ غير معقول (الرجال 35% والنساء تفوق 60%) وفق احصائيات السنوات 2021 وماقبلها وسط مجتمعاتنا وقد تزداد هذه النسب بعد سنة /2022 اذا بقي الحال على عواهنه الان كي يشعر الانسان بقيمته بدلا من ان يكون هائما على وجهه مهملا ويكون صيدا سهلا للنكوص واليأس فيتلقفه الارهاب ودعاته ويضيع عقله بين تهويماتهم الخادعة وأضاليلهم في فتاوى الجهاد ومحاربة الكافرين ونيل الجنان والحسان، ولا ادري عن ايّ جهاد يتحدثون في بلداننا المحترقة بالحروب العائشة في لجّة جهنم بينما الجنائن والفراديس الدنيوية منتشرة وتتسع يوما بعد يوم في العالم المتحضّر الراقي؟؟!! .
اعرف ان هذه المعايير برؤوس أقلامها والتي أهجسها ناجعة سليمة الهدف ونقية الطويّة ستصل الي أيديكم وأوقن ان الكثير لن يمعن في فكّ حروفها وتكون صعبة القراءة مثل اية روشتا من طبيب معالج يكتبها بعجالة على شكل شخابيط كلام لا تعرف خطوطها الاّ دكاكين الصيدلي الحاذق كعادة الاطباء المتعجلين في عياداتهم ومنكم من يكوّر ورقتها بكفّهِ ليرميها لاحقا في سلّة النفايات وهذا هو مبعث الأسى والإحباط الذي يساورنا حينما تتجه الأنظار والأسماع لدعاة التخريف عندما يسمّرون عيونهم امام شاشات وقنوات الدجل التلفزيونية العديدة في بيوتنا والروحانيات ونفثات الفتاوى الضالة والمضلّة ويتراكضون سراعا الى خطب الجمعة ليستمعوا الى الشيخ وهو يهذي ويفرّق ويبث العداوة والبغضاء ويصب جام غضبه على الكافرين وأهل الكتاب والملل والنِحَل وكل من يخطر ببالهِ ويرمي الكلمات البذيئة على عواهنها وهزال براهينها؛ ففي مجتمعات جاهلة مشلولة المسعى قلما يصغي إلينا احد ولو أصغوا صدفة أو عرَضا ترى الكلمات تدخل الى الأذن اليمنى لتخرج مسرعة من الأذن اليسرى.
هذه هي معضلتنا مع الجهل وأتباعه ممن يقدسون الماضي؛ فصفة التقديس أضحت لازمة لا يمكن محوها في الأمد القريب على الاقل؛ واذا كان لابدّ من القداسة وبقائها فليتها تتجه الى تقديس المستقبل وبهذا نكون بدأنا الخطى الاولى للتحضّر والرقيّ ولكن متى يحين أوان تحرّكها؟؟
هذا ما سنترقبه ولكن بعد لأيٍّ طويل وربما يطول حتى اليأس حتى تلتحم أكفّنا على وجوهنا انتظاراً لأماني قد لا تجيء إذا بقينا على هذه الأحوال المائلة.
التعليقات