في كتابي الصادر منذ سنوات والمعنون "فخر العروبة: صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان .. القائد والانسان"، تناولت جوانب عدة من شخصية سموه، والعوامل التي تجعلنا أمام نموذج فريد للقيادة الكاريزمية، التي تحظى باحترام وتقدير الشعب الإماراتي والشعوب الخليجية والعربية عموماً؛ فليس لدينا شك في أننا أمام قائد ينتمي إلى جيل الكبار في سمات قيادته وقدرته على إستشراف المستقبل وبناء المواقف ورسم السياسات و إتخاذ القرار، فضلاً عن حسه الإنساني العالي، الذي يلمسه كل من يتعامل معه في الداخل والخارج.

ولاشك أن إنخراط سموه منذ بدايات حياته العملية في ممارسة العمل العسكري والسياسي قد أسهم مبكراً في أن تتشكل لديه رؤية إستراتيجية شاملة وعميقة لمستقبل التنمية في دولة الإمارات، ارتكازاً على قناعة راسخة بالإستثمار في الموارد البشرية المواطنة والإرتكاز على العلم والتخطيط كأساسين لازمين في أي عملية تنموية مستدامة.

لا يمكن أن نغفل بدايات سطوع سمات القيادة الإستراتيجية لدى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ـ حفظه الله، حين لعب الدور الأهم في تاريخ منطقتنا والعالم العربي، حين تصدى سموه لحماية الأمن الوطني الإماراتي، وإسهامه الرئيسي كقيادي صاحب رؤية قومية واعية في التصدي لأحد أخطر التهديدات التي عصفت بعالمنا العربي في التاريخ المعاصر، ونجح ـ بمشاركة قادة دول شقيقة ـ في صون الأمن القومي العربي في مواجهة التخبط والاضطرابات العارمة، وانتشار الفوضى وعدم الإستقرار، التي انتشرت كالنار في الهشيم واجتاحت دولاً عربية شتى، ضمن ما يعرف إعلامياً بـ "الربيع العربي"، وأثرت على إستقرار شعوبها وأمنها، وأدت إلى فوضى إقليمية عارمة، وانهيار دول عربية عدة وتدمير البنى التحتية فيها، وتوغل الإرهاب والجماعات الإرهابية في أراضيها.

وإذا كان لكل قائد سياسي محطات مفصلية كاشفة عن قناعاته وتوجهاته، فإن من هذه المحطات في مسيرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، نجاحه في بلورة النموذج الخاص بالمواطَنة في دولة الإمارات؛ فالثابت أن الإنسان على هذه الأرض الطيبة يُعدُّ أولوية مطلقة لدى القيادة، منذ تأسيس الدولة على يد المغفور له بإذن الله تعالى الشـيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه – في الثاني من ديسمبر عام 1971. وقد أضاف صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ـ حفظه الله ـ معياراً إنسانياً عميقاً يؤطر هذه الأولوية ويحدد معالمها من خلال صياغة مفهوم "المواطنة"، التي هي بالأساس غربية المنشأ، وتعد حجر الزاوية في تعميق الولاء و الإنتماء للأوطان، وأحد ركائز تماسك الجماعة الوطنية، والصهر الإجتماعي من خلال إعلاء قيم المساواة والعدالة والحرية، وهي الركائز التي تنطلق منها عملية التنمية السياسية الحديثة في أي مجتمع من المجتمعات المعاصرة. وهذه الركائز المجتمعية والأفكار النبيلة تترجمها منظومات من القوانين والتشريعات في مختلف الدول المتقدمة، التي تضمن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع، وهي أمور لا خلاف عليها على المستويين الإنساني والسياسي.

ولكن ما أشير إليه هنا أن سموه قد نجح في تطوير وتكريس نموذج، ووضع معايير "مواطنة" ذاتية نابعة من قيم المجتمع الإماراتي وعاداته وتراثه الثقافي الوطني، الذي لا يقل تحضرا واحتراماً للإنسان عن المجتمعات الغربية المتقدمة.

أسّس صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ـ حفظه الله ـ لمفهوم "عظم الرقبة" كمعيار للتعبير عن شعور سموه بمواطني دولة الإمارات، واضعاً أساس النموذج الإماراتي الخاص بـ"المواطنة" وعلاقة الدولة بمواطنيها. وهذا التعبير الشهير هو الذي ورد على لسان سموه أثناء أدائه واجب العزاء في أحد شهداء دولة الإمارات باليمن الشقيق، حيث أكد سموه لذوي الشهيد "أخوك (الشهيد) وانتو عيالكم كلكم عظم رقبة"، مؤكداً الأساس الذي تقوم عليه العلاقة الراسخة بين القيادة والشعب وبين الدولة ومواطنيها، فهي علاقة قائمة على رباط لا ينفصـم، فالقيادة لا تنظر إلى الشعب بمعيار سياسي نظري بحت، بل تنظر إليه بمعيار أسري وعائلي نابع من فكرة "عظم الرقبة"، سواءً على مستويات القربى أو على مستوى معيار الإنتماء و الإرتباط ودرجات الإرتباط والترابط التي لا تتوافر إلا بين الأهل وذوي القربى وصلات الدم.


ربما لا يدرك مغزى التعبير "عظم الرقبة" سوى من عاش وسط أبناء الإمارات ولامس التلاحم العميق بين الشعب والقيادة، والترابط السياسي والإجتماعي الذي يتجسد بجلاء في مجالس الحكام وأولياء العهود وغيرهم، ولكن الوعاء اللغوي قادر على نقل بعض مكنون وفحوى هذا التعبير العميق وجوهره إلى الآخرين؛ فعندما يكون لديك قيادة تعتبر أفراد شعبها "عظم رقبة" فعلاً لا قولاً، فأنت بالتأكيد تمتلك مايفوق معيار المواطَنة – بدلالاته ومغزاه السياسي الحديث – بمراحل، ولا سـيما أن المسألة في دولة الإمارات لا تقاس فعلياً بالكلمات، بل بالممارسات التي يلمسها الجميع على أرض الواقع.