رغم أنه محضور قانونيا، إلاّ أن حزب التحرير التونسي نظّم في مدينة القيروان يوم الجمعة الموافق للثالث من شهر يونيو-حزيران2022 تظاهرة دعا فيها أهالي المدينة إلى إقامة" دولة الخلافة"، و"نصرة دينهم".

وكان هذا الحزب المتطرف قد دعا إلى الأمر ذاته في مناسبات سابقة مُتحديا الدولة، وأجهزتها الأمنية والعسكرية. وبعد مرور أشهر قليلة على سقوط نظام بن علي، جاء أنصار هذا الحزب إلى القيروان من جميع مناطق البلاد، ليقوموا في الساحة الكبيرة القريبة من مسجد عقبة بن نافع، وهو أول مسجد شيّده المسلمون في بلاد المغرب، استعراضا للقوة استعملت فيه الأسلحة الخفيفة، والسيوف والحناجر.

وفي الخطب النارية التي ألقيت تمّ تأكيد على ضرورة إقامة دولة الخلافة على غرار داعش في العراق وسوريا. ومعنى كل هذا أن حزب التحرير الذي يسيطر على مساجد في العديد من المدن والقرى ماض في دعوته المذكورة في تحدّ صريح للدولة المدنية التي ينصّ عليها الدستور، وللمرسوم القانوني الصادر سنة2015 والذي يقضي يمنعه من أيّ نشاط ديني أو سياسي.

وبحكم مكانتها التاريخية كأول مدينة إسلامية في بلاد المعرب، وكعاصمة لبني الأغلب الذين عرفت في عهدهم العزّ والمجد والقوة قبل أن تتوالى عليها الكوارث والمصائب بسبب النزعات المذهبية، والحروب العقائدية، تستقطب القيروان الحركات الدينية بجميع أطيافها، خصوصا المتطرفة منها، وفيها تنشط مُروّجة في مساجدها خطابات تدعو إلى الجهاد، وإلى "إحياء قيم الإسلام" كما كان حاله في بدياته.

ولا يتردد أصحاب هذه الخطابات في التحريض على العنف ضد "الكفار"، و"المرتدين عن قيم الإسلام".
والغريب أن أهالي القيروان يواجهون بنوع من اللامبالاة، بل بنوع من الاستهتار، مثل هذه الدعوات الخطيرة التي تهدد الأمن العام والسلم الأهلي في تونس، وتشوه صورة مدينتهم لتصبح مُثيرة للرببة والخوف. ورغم أن القيروان لها رصيد ثقافي وحضاري لا على المستوى المغاربي فحسب، بل على المستوى العربي والإسلامي، فإن مثقفيها البارزين الذين يتمتعون بمكانة رفيعة وطنيا وعربيا، لم يبادروا إلى حد هذه الساعة بما يدل على أنهم معنيون بما تروجه التيارات الدينية من أفكار ومن أطروحات متشددة.

وهم يقيمون ندوات وينظمون مهرجانات لا علاقة لها بالواقع في غالب الأحيان، بل هي تبدو وكأنها تملص من هذا الواقع وهروب منه ومن تبعاته. والأنكى من ذلك أن الشباب وطلبة الجامعات والمعاهد لا يستفيدون من الندوات ومن المهرجانات لخلوها من اهتماماتهم ومشاغلهم. لذلك تستغل التيارات المتطرفة البؤس الثقافي والفكري الذي يعانون منه لكي تهيمن على عقولهم وعواطفهم، ليكونوا في النهاية من أنصارها الحالمين بالفوز بحور العين. أو هم ينجرون إلى الجريمة والانحراف في أرذل وأبشع مظاهره. بل قد يفضل البعض منهم الانتحار على حياة مسدودة الآفاق. وهذا ما تؤكده الاحصائيات الخاصة بالقيروان، وبكامل المنطقة التابعة لها.


وتوجد في القيروان مؤسسات ونواد ثقافية ومركز للفنون الدرامية إلاّ أن المشرفين عليها يتصرفون وكأن ما يعنيهم هي الامتيازات المادية بالدرجة الأولى. وهذا ما تثبته بامتياز المشرفة على بيت الشعر الذي يحظى بتمويل خاص من امارة الشارقة. فمنذ تأسيسه قبل نحو خمس سنوات، دأب هذا البيت على تنظيم أمسيات شعرية خالية من المتعة والاثارة، أو ندوات باهتة وسطحية لا تستقطب سوى جمهور يحضرها ل"قتل الوقت"، أو للتحفيف من رتابة الحياة في مدينة باتت كئيبة، وتكاد تكون محرومة من متع الحياة وملذاتها. وواضح أن المشرفة على بيت الشعر ليست مهتمة بتاريخ مدينتها الثقافي والحضاري، والتي كانت ذات زمن منارة مشعة على بلاد المغرب، وعلى صقلية والأندلس. كما أنها تجهل أن شعراء وكتابا غربيين كبارا زاروا القيروان وعنها كتبوا أمثال اندريه جيد، ومونتارلان، وموباسان، والشاعر الألماني راينار ملريا ريلكه. وفيها اكتشف الفنان العالمي الشهير باول كلي سحر الألوان، وفتنة الضوء ليرسم أشهر لوحاته من وحي زيارته لها في ربيع عام1914...
القيروان تعاني في الخلاء من الإهمال والنسيان، ومن ظلم أهلها، ومن جحود وأنانية مثقفيها...
لذا هي في حداد إلى أن يأتي ما يخالف ذلك...