بعد استثناء رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح، وبعض وزراء ممن ليسوا من أصحاب المليشيات والكتل والائتلافات، ليس بين جميع رؤساء الأحزاب الكبيرة والائتلافات والكتل والمليشيات الحاكمة المالكة الوحيدة للسلطة والسلاح والمال في الدولة العراقية الحالية مفكرٌ واحد، أو رجل اختصاص في سياسة أو اقتصاد أو تكنولوجيا أو قانون، أو أديب وكاتب وشاعر وفنان. لا أحد منهم عرفنا عنه أنه كتب كتابا، أو ألف مرجعا في علم أو فكر أو فلسفة أو أدب أو فن، وأضاف شيئا إلى ما أنجزه أعلام الأجيال المبدعة العراقية السابقة في أي مجال وأي باب.
وأهمُهم وأكثرهم سلاحا ومالا وسلطة ووزاراتٍ ومؤسسات ومزارع وقصورا وشركات لم يحصل على شهادة. بل إن أغلبهم فشل في إكمال دراسته الإبتدائية، أو طرد منها لغبائه أو لسوء سلوكه.
أخبرني وزير ثلاث وزارات منهم بأنه مُحرِّمٌ على مكاتب السكرتارية والمرافقين إشغاله بأن يعرضوا علي أي شيء نكتبه نحن الكتّاب المشاغبين عنه وعن وزاراته. وقال لي ما نصه "الحكومة تمشي والكتاب ينبحون؟" ثم ختمها بقهقهة مجلجلة.
ألم يصرح صاحب أكبر مليشياتهم، مرة، بأن نهر الفرات "يمر بمصر ومن يشرب منه يصبح ناقص غيرة". ثم ألم يصرح أخر، وكان موظفا بدرجة رئيس وزراء في جمهورية العراق، بأن "نهر دجلة ينبع في إيران".
هذا الكلام فقط عن القادة الكبار الذين أخرَسوا وأطرَشوا وأبكموا الأربعين مليونا من العراقيين.
أما المجنَّدون العاديون حملةُ سلاح فصائلهم ومليشياتهم وفصائل حماياتهم، والأعضاءُ العاديون في أحزابهم وائتلافاتهم ومنظماتهم، فأميون، بالكامل، ولا يقرأون ولا يكتبون. وأغلبهم كان عاطلا عن العمل فحمل سلاحهم، أو العمل في حماية أحدهم ليكسب رزقه ورزق عياله، اضطرارا، أو فاسدا قاتلا أراد أن يجد فرصة للتعالي على الناس وابتزازهم وسرقة أموالهم والاعتداء على أعراضهم، بقوة سلاح الزعيم والبزة المرقطة والسيارة المصفحة المضللة التي يركبها بدل الحمارة التي كان يمتطيها في قريته البائسة.
أما الذيم انخرطوا في المليشيات من العقائديين المؤمنين بأن القتل تقوى، والسرقة عبادة وخدمة للعقيدة والمرجعية، فمضللون آمنوا بالخرافة، وصارت عندهم الطاعة العمياء لولي أمرهم، حتى لو كان حمار أو لصا أو مزوَّر شهادات أو واحدا من جواسيس حكومة أو مخابرات أجنبية، جهادا مقدسا لمرضاة الله ورسوله والمؤمنين، ثم أصبحوا يُساقون وراء القائد الضرورة كالأغنام.
وبين هذا وذاك فإنهم، بمجملهم، لا يشكلون إلا فئة قليلة لا تتعدى نصف الواحد في المئة من مجموع الأربعين مليونا، ولم ينتخبهم أحدٌ بإرادة حرة، ليصبحوا حكاما وناطقين باسمه، ومكلفين بتقرير مصيره ومصير أجياله القادمة.
ولا أسوأ من جماعة الإطار إلا جماعة التيار. وجاهلون أو منافقون أؤلئك الذين أطلقوا على حركة الصدريين لقب (ثورة)، ونفخوا فيها، وبشرونا بأنها ستكون القادسية الثالثة التي ستهزم امبراطورية فارس، وتحرر العراق والأمة العربية من احتلالها، بعد قادسية سعد بن أبي وقاص، وقادسية حارس البوابة الشرقية، ولا يخافون ولا يستحون.
ثم، ظالمٌ وغير وطني وغير عادل ولا عاقل من يُصدق بأن رصاص أبطال الإطار التنسيقي على الصدريين في المنطقة الخضراء كان من أجل حماية الدستور والقانون والدفاع عن الشرعية والدولة ومؤسساتها. وهم الذين اشتهروا، من العام 2005 وحتى اليوم، باحتقار الدستور والقانون، واعتدوا على هيبة الدولة ورئاسة وزرائها وعلى القيادة العامة للقوات المسلحة التي يقبضون منها أجورهم من لقمة عيش المواطن الفقير.
ألم نكن نسمعهم، في أيام انتفاضة تشرين وهم يصرحون، صباحا، بأن التظاهر الشعبي السلمي حقٌ مشروع لجميع المواطنين، ثم يرسلون، مساءً، طرفَهم الثالث المجهول ليغتال المتظاهرين، غدرا، وبالعشرات؟.
وتأسيسا على هذا الواقع المر، نسأل، هل يمكن أن يكون قادةٌ من هذه الخامة، ومجنَّدون من هذه الطينة، بُناةَ حضارة ورجالَ دولة ودعاةَ نهضة وعدالة وإصلاح؟.
في ذات مرة من عام 1974 زار القذافي تونس بهدف إقامة وحدة اندماجية بين تونس وليبيا. وكان الرئيس بورقيبة مريضا وفي الفراش، وكان العقيد معمر القذافي قد وصل تونس، وهو الآن يلقي خطابا جماهيريا في قاعة سينما في العاصمة منقولا بالراديو على الهواء. فراح بورقيبة يستمع إلى خطاب ضيفه باهتمام. لكنه استفزه بحديثه عن ضرورة محاربة الاستعمار، والقدرة على الانتصار على الدول العظمى فاضطر للتغلب على مرضه، وتوجه مباشرة إلى حيث يخطب العقيد، فقاطعه وأخذ منه المايكرفون، وبحكم السن والتجربة راح يلقي عليه المواعظ كا يفعل الأستاذ ما واحد من تلاميذه الصغار.
قال له إن الوحدة العربية طموح مشروع، لكنها تحتاج إلى المرحلية، وإعداد شروطها، حتى لا تخضع للارتجال وتتعرض للفشل مثلما تعرضت المبادرات الوحدوية العربية السابقة.
وخاطبه قائلا، قم أولا بتوحيد القبائل الليبية، واهتم ببناء الإنسان الليبي، ونقوم نحن في تونس ببناء الإنسان التونسي على العلم والخبرة والتكنلوجيا، قبل أي شيء آخر، ليمكن بعد ذلك تحقيق وحدة لا تسقط بعد شهور، بل تدوم.
ثم قال له، بصراحة، "لا تخف من تعليم شعبك، فأنْ يثور عليك شعبٌ متعلم متحضر أفضل وأرحم من أن يثور عليك شعب جاهل غوغائي همجي متخلف". ثم جاءت الأيام لتثبت للعقيد أنه كلام بورقيبة كان من ذهب.
ولنا في ثورة 30 حزيران المصرية، وقبلها التونسية، ثم السودانية الحالية أسوة حسنة. فقد خرج الفلاح والعامل والطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة ومدرس الثانوية والابتدائية، والتلاميذ، والمفكرون والأدباء والشعراء والفنانون الكبار والصغار، وصمدوا ثم استجاب القدر.
هذه هي الثورة التي تستحق أن يحني رأسه احتراما لها القريبُ والبعيد، الشقيق والصديق، والمحلي والأممي، وحتى النصر الأخير.