الواقع الاقتصادي المنهار دفع الغالبية من العاملين في الوظائف العامّة في سوريا إلى تقديم استقالاتهم نتيجة الرواتب الضعيفة، والتي بالكاد أن تغطي جزء يسير من المصاريف المنزلية في ظلّ لهيب الأسعار الذي صار يَخنق العاملين وغيرهم من شرائح المجتمع، وهي لا تدوم أكثر من أيام. وقد تقدم العاملين في القطاع الحكومي بتقديم استقالاتهم من العمل الذي يقومون به إلّا أنّ هذه الطلبات جوبهت بالرفض المباشر، لا سيما أن الحكومة قامت باستصدار توجيه شديد اللهجة إلى الوزارات المعنية تحثّها على أن تكون الإدارات أكثر صرامة عند مراجعة طلبات الاستقالة، وألا تتم الموافقة على الطلب إلا إذا لم تكن الإدارة المعنية بحاجة إلى الموظف أو العامل، وحتى في هذه الحالة على الموظف انتظار طلب الموافقة المسبقة من قبل وكالة الاستخبارات الوطنية التي يعود لها البتّ في طلبه. وقد رفضت أغلب طلبات استقالة العاملين تلقائياً بسبب هذه التعقيدات البيروقراطية، وتواجه أولئك الذين لا ترفض مطالبهم استجواب قوات الأمن الحكومية، وهو اسلوب تخويف وردع يهدف إلى إبقاء الناس في وظائفهم غير المرغوب بها.
عدد قليل من العاملين في الوظائف الحكومية ساعدته ظروفه إلى ترك العمل، وأن العديد من موظفي الخدمة المدنية موجودين في مناصبهم بدافع الخوف الذي تفرضه الجهات الأمنية لأغلب العاملين الراغبين في الاستقالة.
إنّ الوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا يعني أن اتساع الفجوة بين الدخل ونفقات المعيشة سيستمر إن لم يحدث تدخل حكومي عاجل يحسم هذا الفارق الشاسع الذي يواجهه المواطن، وصار في وضع محيّر حيالها بين أن يترك العمل وأن يستمر، ويحاول رسم الصورة الحقيقية لما يجري اليوم، وكما سبق أن ذكرنا عن فجوة واسعة ومرعبة وبات يعاني منها الأغلبية من الناس والسبب الرواتب الشهرية لا تسد الرمق، وبين ما يستوجب دفعه لقاء تأمين أبسط حاجاته الضرورية. الفارق في الواقع كبير وكبير جداً ولا يمكن مقارنته في الماضي مطلقاً!.
في سوريا كانت الوظائف الحكومية والاقبال عليها يُشكلُ هاجساً لدى الجميع وتعد مطلباً ملحّاً. اليوم صار الغالبية يبحث عن الخلاص. عن ترك العمل بالتوسّط لدى صديق أو مسؤول للحصول على موافقة استقالة. الاقبال على الوظيفة العامّة صار مستبعداً لأنها لم تعد تلبي الطموح، ولم تلقَ الرغبة من قبل الناس. أغلب العاملين وغيرهم يبحثون عن الحل وهو السفر بعيداً بالالتحاق بإخوانهم اللاجئين الذين سبقوهم، ويقيمون في الدول الأوربية التي احتضنتهم وآوت نزوحهم.
اليوم بلغ متوسط دخل الموظف العامل في سوريا 100 ألف ليرة سورية حوالي 23 دولاراً، أي أن الليرة السورية فقدت ما يقرب 80 في المئة من قيمتها الفعلية منذ اندلاع الحرب الأهلية سنة 2011 وأسهمت الأوضاع الاقتصادية والسياسية في تفاقم هذه الظاهرة، وأدى انخفاضها إلى مستويات التضخم غير المسبوقة ونقص السلع الأساسية والتداعيات العالمية للحرب الروسية ـ الأوكرانية إلى زيادة كبيرة في تكلفة المعيشة بسوريا، وخلق فجوة غير مسبوقة بين الدخل والانفاق.
إنّ عدد العاملين في الحكومة السورية يصل إلى نحو 700 ألف عامل، وتشير التقارير إلى استقالة المئات من موظفي الحكومة في مختلف المحافظات. ففي محافظة اللاذقية لوحدها بلغ عدد المستقيلين من مناصبهم مع مطلع العام الحالي 516 عاملاً، وإنَّ رواتب العاملين في الدولة تترواح بين 60 ـ 200 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 13 ـ 50 دولار أميركياً، في حين تحتاج العائلة المؤلفة من أربعة أفراد إلى ما يصل إلى 400 دولار لجهة تأمين مستلزمات المعيشة الأساسية، وغالباً ما يتمّ سدّ الفجوة النهائية بين الدخل والانفاق من خلال اللجوء إلى عمل ثان، أو الحصول على مساعدات من جهات غير حكومية، وأكثر ما شجّع على الاستقالة ارتفاع أجور المواصلات بسبب أزمة الوقود في سوريا، وتحوّل ظاهرة التقاعد المبكر من الوظائف في الجهات الحكومية إلى ظاهرة مستشرية، حيث إنَّ راتب العامل في مؤسسات الدولة بالكاد يغطي أجور التنقل من وإلى مكان العمل.
وفي اللاذقية، وكما يؤكد رئيس اتحاد العمل فيها أنّه تم رفض استقالة 91 عاملاً من المؤسسة العامة للتبغ علماً أن غالبيتهم من العاملين الذين وصلوا إلى سنّ التقاعد المبكر، وتتراوح سنوات خدماتهم بين 20 ـ 25 عاماً. ومع ارتفاع سعر مادة المازوت، وتراجع قيمة الليرة انخفض الاقبال على العمل الوظيفي في القطاع الحكومي وبشكل كبير، فقد وصل سعر البرميل الواحد للمازوت إلى مليون وثلاثمائة ألف ليرة سورية، أما سعر ليتر البنزين فوصل إلى 7000 آلاف ليرة، فضلاً عن سعر اسطوانة الغاز وتبديلها في السوق الحرة فوصل إلى 200 ألف ليرة، في حين نجد أن هناك أعداد من العاملين فضلوا البقاء في عملهم برغم رواتبهم الشحيحة جداً أمام ارتفاع الأسعار في السوق المحلية نتيجة الرشاوي التي يتقاضونها، والتي ترغّب البعض منهم في الاستمرار في العمل وتدفع بهم إلى الالتزام بالأعمال التي يقومون بها برغم الضائقة المالية التي يعانون، وأمثال هؤلاء تراهم لا يشتكون من هذا الواقع الاقتصادي المنهار بل أنهم ظلوا متشبثين بوظائفهم التي تبيض ذهباً بالنسبة لهم مع مطلع فجر جديد غير آبهين بما يجري من حولهم، ولم يفكروا أو يسعوا يوماً إلى التفكير لمجرد التفكير بالاستقالة، وما يقومون به من دور صار يرضي غرورهم وحبّهم للمال الذي يُملي جيوبهم بطرق غير شرعية، وهذا ما يبقيهم على رأس عملهم وبكل رغبة وحب.

[email protected]