معظم الروايات تقوم على الخيال الخالص، بعضها خليط من الخيال والواقع، أما الشخصيات فغالباً ما تكون وهمية. هناك نوع من القصص يعكس الواقع، ومن ذلك رواية "انا محمد من الضاحية"، للروائية اللبنانية والأستاذة الجامعية المقيمة في الولايات المتحدة غادة نمر بوعلوان. حين نقول عن هذه الرواية إنها واقعية، أو أنها تعكس الواقع، نقصد الواقع اللبناني الذي تصوره هذه الكاتبة خير تمثيل، بما يكتنفه من ظواهر القيم والعادات والتقاليد، المتجذرة في الأرض اللبنانية، بفعل فوارق المذاهب وعوامل السياسة، وما تحدثه السياسة والمذاهب من أزمات وحروب، ومشاكل نفسية، وأثر ذلك كله على سلوك الفرد والمجتمع.

وعلى الرغم من أن حجم الرواية كبير قياساً إلى على ما ينشر من روايات في هذه الأيام (360 صفحة من القطع المتوسط - منشورات دار النهضة العربية) إلا أنها من الكتب التي لا تصيب القارئ بالملل، لا بل تشده من أول صفحة إلى آخر صفحة. شخوص الكتاب أفراد مختلفو الهويات والمشارب، معظمهم فتيات، أو قل نساء. هناك شخصيتان رئيسيتان؛ شاب يدعى محمد، وفتاة تدعى تالة. إلى جانب محمد من الرجال، هناك ذكر لسامي، والد الفتاة تالة، ولزوجها، غدي. تفرد الكاتبة لكل واحد من الشخصيات، صحائف متفرقة متعددة، وتتداخل الفصول بعضها ببعض إلى حد يثير الاستغراب، خصوصا حين يدخل على خط الرواية شاب اسمه هيوغو. هنا يتساءل القارئ، من هو هذا الشاب الغريب، وما علاقته بالقصة؟ لا تفصح الكاتبة عن هويته، وتترك القارئ ليكتشف ذلك بنفسه، فإذا هو يظهر على نحو غير مباشر، في الصفحات الأخيرة من الرواية، وإذا هو محمد نفسه الذي من الضاحية. عن هيوغو هذا تفرد الكاتبة عنه وعن مغامراته الغرامية والجنسية، فصولاً شائقة ممتعة، تأخذ من الكتاب الصفحات الطوال.
لا يملك القارئ وهو يطالع هذه الرواية إلا أن يثني على لغتها، البسيطة الجميلة والغنية والدقيقة في الوقت نفسه. أقتبس بعض شذرات كمثال.

تكتب عن فتاة اسمها روز وتقول:" كانت روز ابنة مثالية، وفي الداخل انسانا مهشماً يحاول جاهداً أن يتحدى الفراغ السحيق داخل روحه". وعن تالة المعذبة التي تركت بيروت لتعيش مع زوجها خارج المدينة تقول: "كانت تالة تغرق في الوحدة وتفقد شهية الحياة". وتقول عنها وهي تخاطب صديقتها ميرا:" هذه السكينة لا تطاق يا عزيزتي ميرا، ولا ملجأ من الملل هنا. الوقت في هذا البيت لا قيمة له، إنه مجرد انتظار. لا منظر يبهر العقل ويوقد الذهن إلا منظر بيروت والبحر الذي يناديني. أضحت بيروت صورة اراها ولا أعيشها. لقد تبخر الصبر والتجلد مني ولم أعد قادرة على شيء". أو حين تكتب عن محمد، الشخصية المستعارة التي اسمها هيوغو:"جلس هيوغو وحيداً يحدق في سقف الغرفة ويتأمل حاضره الذي يزيد من اكتئابه. ها هي الأيام تمضي متشابهة وتعبر سنوات شبابه بين هذه الجدران". في مكان آخر تقول: "دخل هيوغو غرفته واستلقى على سريره، ودفن وجهه في الوسادة التي ترطبت بدموع الندم. تناهى إلى مسمعه صوت رذاذ المطر يبلل زجاج النافذة، وراح يتقلب تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار". بهذه الطراوة اللغوية البسيطة والمعبرة، تسرد بوعلوان الحوادث والحوارات والمناجاة. اللغة قوية البناء، غنية بالمفردات المتنوعة بحيث يسهل ترجمتها إلى غير لغة. هل هناك ما يعيب الرواية في شي؟ الحق أنه ليس هناك ما يمكن أخذه على الكاتبة إلا هنات بسيطة وهي نادرة جداً في الكتاب، لكنها شائعة بين العاملين في حقل الإعلام، وبين كبار الكتاب، مثل كلمة "حوالي"، التي يجب أن تكون "حوالى"، أو كما في جملة "تخرج من الجامعة"، فيما الأصح أن يقال تخرج في الجامعة، أو قولها "استلم" بدلاً من تسلم، او "تعرف بها"، بدلا من تعرف إليها، أو "تطمئن عليها"، بدلا من تطمئن إليها، أو "تعيسة" بدلا من تعسة، و"طائرة" بدلاً من طيارة، وكلمة "يداهمني "بدلا من يدهمني، وجملة "التقى بها" بدلا من التقاها، وجملة " تدور حول نفسها محتارة" بدلا من حائرة، ومن ذلك ايضاً "أكتب لك رسائل"، بدلا من كتب إليك رسائل، وكذلك بالنسبة لي" ، بدلاً من النسبة إليً.

نرى أيضاً جملاً متفرقة يغلب عليها أثر الترجمة عن لغات أجنبية، مثل قولها "واستدار وأمسك ذراعيها بيديه"، حيث لا ضرورة لكلمة بيديه، أو "وشدت على أذنيها بيديها الاثنتين"، حيث لا ضرورة لكلمة الاثنتين، أو في حديثها عن فتاة تدعي قمر:" "في دار الأيتام تربًت قمر منذ كان عمرها سنة واحدة" في حين أن السنة لا يمكن أن تكون إلا واحدة، وقولها "بقي فترة طويلة من الزمن"، فيما يتطلب الإيجاز حذف كلمتي "من الزمن" وقولها "العلاقة الغرامية بين امرأة مسيحية ورجل مسلم" في حين أن كلمتي مسيحية ومسلم تكفيان، ولا ضرورة لذكر الجنس. وقولها "شقة مؤلفة من غرفتين ومطبخ وحمام واحد فقط"، ولا ضرورة هنا لجملة "واحد فقط"، أيضاَ كما في جملة، "وخلعت تالة صندلها الجلدي ومشت حافية القدمين"، في حين أن معنى حافية كاف، ولا ضرورة لذكر القدمين. كذلك استخدامها كلمة "سوداوية" التي لم تعد مقبولة سياسياً، لما تنطوي عليه من معنى عنصري.

هذه كلها على أي حال، هنات نذكرها، لكن لا نتوقف عليها، ولا نحسبها أخطاء تشين النص في شيء، أو تقلل من قدر الكاتبة، وهي هنات ليست شيئاً مقارنة بما نلاحظه في روايات أخرى لروائيين آخرين لبنانيين وعرب. مهما يكن، التبعة في ذلك لا تقع على المؤلفين، بل على المحرر، او على دور النشر، التي عليها مراقبة النصوص وإخضاعها لنظام الدار (هاوس ستايل)، حتى في أدق الأمور الصغيرة، ومنها علامات الترقيم، مثل النقطة والفاصلة العادية، والفاصلة المنقوطة وعلامات الحصر او الازدواج والألف العادية والألف المقصورة، وغيرها، كما هو متبع في دور النشر الراقية التي تخرج من دواليب مطابعها أجمل الروايات وأكثرها أناقة.

أكثر الفصول إثارة هو ما يتصل بمحمد الذي من الضاحية، وزياراته للطبيب النفساني، ليفضفض له ما يعانيه بسبب اسمه، وكونه ولد من أب لبناني وأم فلسطينية، وعاش طفولته في مخيم اللاجئين، سمات لا تريح صاحبها في بلد مثل لبنان، يحكم الناس على الناس فيه حسب اسمائهم ومذاهبهم، وهوياتهم، ومراتبهم الاجتماعية، ما جعل محمد يخفي هويته ويغير اسمه إلى هيوغو، ليبدو غريباً مثيراً للفضول، وليغري الفتيات ويوقعهن في شباكه، بعد أن يقول لهن أنه ولد في البرازيل من أب لبناني هاجر إلى البرازيل وهو صغير، وهناك تعرف إلى امرأة وتزوجها.

في إحدى المرات تكتشف فتاة وهي تمارس الجنس معه أنه مختون، فلم يتردد أن يقول لها إن أمه يهودية! أدرك هيوغو أن بعض الفتيات اللبنانيات يرتحن لغريب، لا يعرفن عنه شيئاَ، ويتركن أنفسهن معه على سجيتها. أدرك ايضاَ أن اسمه والكشف هن مذهبه الديني سيحول دون لقائه فتيات من غير دين، منهن من عشقنه وأحببن الزواج منه.

يتزوج محمد، أو هيوغو، ويطلًق ثم يسير في الدرب التي اختطها لنفسه، مصاحبة النساء لإشباع رغباته الجنسية والغرامية. لكن انتحاله شخصية غريبة باسم غريب، ليس هو السبب الذي جعل عشرات النساء يقعن في شباكه. حسب الرواية "ذكاء هيوغو وجماله يعززان الخداع. هو يتحلى بالفطنة والوسامة. تحبه النساء ويتولعن به. لم يكن ذكيا وجذاباً وشهيا فحسب، كان ايضاَ غامضا وغريب الأطوار، مزيج من الشاب المرغوب اللطيف والشيطان اللعوب. يستحوذ القلق عليه دائماً، لكنه لا ينفك يخوض تحديات جديدة مع النساء كل يوم. أصبح مدمنا على ملاطفة الفتيات والنساء، وعلى مسايرتهن له بعد أن يقعن تحت تأثير جاذبيته ووسامته. لا يأبه لشيء سوى كبريائه وسيطرته المطلقة على المرأة".

عاشر هيوغو نساء كثيرات، إلى أن تعرف إلى تالة التي كانت متزوجة وانفصلت عن زوجها بعد مصرع ابنتهما الوحيدة بتفجير طائش حول حياتها إلى جحيم لم يعد يطاق، وعرًضها لعواصف اليأس والوحدة والضجر. لقاؤها هيوغو وفًر لها حباً جديدا بعد انفصالها عن زوجها غدي، لكن هذه العلاقة الجديدة لم تدم.

تزوج محمد، أو هيوغو بعد ذلك من فتاة اسمها نور، لينجب الولد ويعيش حياة مستقرة، وترك تالة وحيدة، تصارع أمواج الحياة ورياحها العاتية، لكنه عاد إليها آخر المطاف، وهي في حال مختلفة، بل مختلفة جداً. أما كيف كانت هذه الحال المختلفة، فذلك ما يجب أن تعرفه بنفسك أيها القارئ الكريم، وأيتها القارئة الكريمة. يكفي أن أقول لكما إن أمثال محمد وتالة كثر في لبنان، أعدادهما لا تعد ولا تحصى، وأن هذه الرواية، وهي الثانية للكاتبة بعد روايتها الأولى "سماء مليئة بالنجوم"، قصة جميلة على رغم ما يغلب عليها من الحزن في هذا الزمن الحزين، لكنها رواية خليقة بأن تقرأ، وتحتل موقعها اللائق بها بين الروايات العربية الجيدة.