الدنيا تسير بالمقلوب، وهي عند الناس علامة لقيام الساعة، كما ظهور المهدي المنتظر أو المسيح الدجال، أو العودة المتوقعة ليسوع المسيح للأرض؛ تفسيرات ورؤى بعضها من الخيال أو هو موجود في كتب الأديان والأساطير.

دنيا اختفت منها القدوة المعرفية والتربوية، واحتجبت مكانة المثقف والمفكر، وتراجعت صورة المعلم ومربي العائلة، مقابل ظهور الغبي الافتراضي الذي يُثقف الناس بالخزعبلات البصرية، والسخافات والتفاهات، والسلوكيات المعلبة بالبلاهة، ومستنقعات الابتذال.

فالدنيا التي نتحدث عنها اليوم، هي أقبية وسائل التواصل الاجتماعي ومجاريها الافتراضية، هي عبارة عن ثقب اسود يقوم الناس بأشياء بليدة لا يمكن تصورها للحصول على خمس دقائق من الشهرة. حيث جنون الأفراد بشهرة زائفة تخفي خلفها "عقولا فارغة“، فحولوا ملاعبها إلى فوضى لتدمير الأذواق، وقتل الجمال الإنساني، وقلع جذور الثقافة الفطرية عند إنسانية الإنسان. بالمقابل هناك بشر متابع مهووس بالوناسة والضحك والتسلية.

هذه الوسائل، خلقت شريحة مجتمعية جديدة من مشاهير العالم يطلق عليها " فاشينستات" بعيدا عن العمل الإعلامي التقليدي؛ تعتمد على يوميات الإنسان ومواهب متواضعة خلقت من قاع الأميّة المجتمعيّة، مثلما خلقت ثقافة معتّلة بأنماط الميوعة والابتذال والقرف. صارت الدنيا كأنها جنون لبشر يَحلّمون بشهرة حتى لو كانت من صنف سلوك الحمير والبعران والضفادع.

صارت الشهرة على مواقع التواصل الاجتماعي أسهل من شرب الماء، وباباً لتحقيق مكاسب كبيرة لبعض من لا يستحقون، ولا يمتلكون سوى عبث الغرابة، وجنون الأفعال غير السوية. هناك مئات الآلاف، وربما الملايين ممن يتابعون أفراداً يصنعون محتوى بليد المعنى والسلوك؛ رقصات غريبة خادشه للحياء، وسلوكيات عابثة بالأجساد بطريقة مقززة، ومؤخرة أمرأه متعرجة بفعل التنفيخ والتحديث، وشيف معدة مختص بالتبولة أو الدولمة العراقية، وحركة عبثية ساذجة تقلب الدنيا ومن فيها، حيث الملايين من المعجبين.

كنا قديماً نأخذ الحكمة من الأب والمعلم والمثقف والمفكر، بينما نأخذها اليوم من الأبله والفاشل والضائع والمريض النفسي، من صبي مهووس بسروال ممزق، وصبية مشغولة بالبوتكس والفيلر. الكل أصبح معلماً ومصلحاً وحكيماً وطبيباً وصيدلانياً ومفكراً وواعظا دينياً في العالم الرقمي. أختلط الحابل بالنابل.

صارت أيامنا هلوسة عقلية افتراضية، وفضاء ملوثاً بيورانيوم المعلومات القبيحة والمُضللة تُعلم الصبايا فنون تشويه الوجوه والشفاه، وقلع قيم الشباب وتشويه أذواقهم، ربما قد تنقذنا بعض المنصات الجادة التي نرى فيها العقل يتحرك، والجمال يتألق حضوراً لتنقذنا من القمامات الرقمية.

وبتفسير العلم والعلماء، فهناك ثلاثة أسباب محتملة: الأولى النرجسية، وهي عنصر رئيسي في الرغبة بالشهرة، حيث تكون متمحورة حول الذات والاستحقاق، والحاجة إلى الإعجاب، وهم يعتقدون أنهم يستحقون أن يكونوا مركز الاهتمام.
والثانية عدم الثقة بالنفس، حيث الشعور غير الآمن للذات، ووجود التقلبات، وهذا يدل على أن النرجسي يرغب في الشهرة، لكنه يعاني من عدم ثقة بالنفس، حيث يعتمد بشكل كبير على المصادقة والانتباه للخارجيين.
والثالثة كيمياء الدماغ في الكشف عن الذات، حيث وجد أن الإفصاح عن الذات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بزيادة التنشيط في مناطق الدماغ الذي يعتمد على نظام الدوبامين الحوفي، وهو الناقل العصبي الذي يلعب دورًا رئيسيًا في شعور الناس بالسعادة. وكلما كان الشخص مشاركاً في المعلومات عن نفسه، فأنه يطلق الدوبامين في الدماغ بهدف الشعور بالسعادة والفخر والتباهي.

قديماً، كان المؤثر هو القائد السياسي والمفكر وأصحاب الاختراع، بينما صار اليوم "الانفلونسرز" أو المؤثر صانع المحتوى الرقمي الذي يُصدرّ لنا هلوسات وخزعبلات على اليوتيوب والانستغرام والفيسبوك. لذلك لا نستغرب، حسب نتائج البحوث، بأن 70% من المستهلكين يتأثرون في قرارات الشراء بالمدونين أو المؤثرين الرقميين. بل صار هذا المؤثر الرقمي أيضاً يساهم في تسهيل جرائم تبيض الأموال وتجارة البشر ومخالفة القوانين. ومع ذلك لديهم مؤتمرات وندوات وبرامج وجوائز وحظوظ عند الشركات الكبرى والرؤساء والملوك.

قبل فترة قصيرة التقيت صدفة بأحد طلبتي في مقهى بأحد مولات دبي. بدأنا نسرد ذكريات الدراسة قبل 10 سنوات، والسؤال عن العمل والأحوال. ومنذ الدقائق الأولى لاحظت بأن هناك شيء غريب يحدث؛ صبيان وصبايا يقتحمون جلستنا ويطلبون التصوير مع طالبي، وبعضهم يريد توقيعه، موجات تأتي وأخرى تخرج، وانا أفكر مع نفسي ما الذي يحدث: هل صاحبي أصبح مطرباً أم مقدماً لبرنامج تلفزيوني.
كما لاحظت عليه الخجل في قطع حديثنا من المعجبين مرات عديدة، وكان يحرص في كل مرة على يقدمني لهم بطريقة الفخر والمباهاة: أستاذي كاتب إعلامي وله عشرات المؤلفات. وبالطبع لم أحصد إلا على ابتسامات سريعة، مع جملة مختصرة: ما شاء الله!

قلت له: شنو القصة ياطيب على الطريقة الإماراتية؟ وبدأها: منذ تخرجي من قسم الإعلام منذ سنوات لم أجد العمل المناسب الذي يناسب قدراتي المتواضعة، فقررت دخول العالم الرقمي، وبدأت ابحث عن فيديوهات المشهورين.
وقلت مع نفسي ما أسهلها وما أحلاها من مهنة. فذهبت إلى الصحراء لأنها بيئتي، فوجدت البعير الذي أعرف أسرار غضبه وهدير صوته ونوعية رفساته من الجانب وللأمام وللخلف. وقلت في نفسي مالضير إذا تحملته لدقائق مقابل دقائق الشهرة. وهذا ما حدث؛ "انهالت الإعجابات والمشاهدات بالملايين، وكان هذا البعير سبب شهرتي واحتلالي مواقع متقدمة من صنف المؤثرين الرقميين".

دنيا ملعونة بحق؛ هدير بعير ورفسته تجعل الإنسان مشهوراً ومؤثراً وغنياً، بينما أصحاب العقل والفكر يؤلفون الكتب والأشعار والروايات دون أن يكون لهم شهرة شعبية في الأرض. فلا إشارة عابرة من معجب ضيعه الزمن، ولامعجبة "بوتوكسية" ترفع المعنويات. دنيا اختفى فيها العقل و"القلم وما يسطرون"، وحكمة القول والفعل والحلم وما يفعلون. لا نسمع في دنيا الخرابيش الرقمية سوى جعجعة الأهبل، وسطوع المجنون الافتراضي ، ونهيق الحمير الرقمي، وصوت سفاهات آخر زمن!


[email protected]

#فضاءـالرأي