لم يخلو افتتاح كأس العالم من القليل من السياسة مع حضور العديد من الشخصيات الرسمية في هذا الحدث الذي تحتضنه قطر، ولعل أبرز سياسي فيه هو المصافحة التاريخية التي جمعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، بعد عقد من الجفاء والهجوم الإعلامي الذي مارسته تركيا ومارسه أردوغان شخصيا ضد القيادة المصرية .... فما الذي جعل أردوغان يغير موقفه 180 درجة بعد أن كان يؤكد في كل مرة أنه لن يسامح السيسي اطلاقا، وأن ما يفعله هذا الأخير في مصر يرتقي الى جرائم حرب.

لشرح وجهة نظري في الموضوع وجب العودة الى مقال نشرته سابقا على صحيفة العرب اللندنية في شهر مايو الماضي، تحت عنوان "تركيا تتصالح مع العرب وتسقط ورقة الإخوان" قبل ان تأتي أية مؤشرات رسمية من الطرفين وتوقعت أن يشمل التغيير الحاصل في السياسة الخارجية التركية ملف مصر وسوريا بما سيعرف بالانفتاح التركي على أعداء الماضي، والسبب هنا يكمن في أن تركيا تتأقلم مع التغيرات التي تحصل وتكيف طبيعة علاقاتها بعد إعادة قراءة المشهد وفهم ما تتطلبه كل مرحلة، وهذه هي أصول فن السياسة، فالسياسة الخارجية التركية لم تذهب في عداءها المطلق ضد مصر حبا في نشر الديمقراطية وانطلاقا من الموقف الأخلاقي الذي تمليه ضرورة الوقوف الى جنب التيار الإسلامي الذي لطالما لعبت عليه تركيا في قضايا الشرق الأوسط ......بل انطلاقا من الحرص على مصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية في المنطقة وبعبارة أدق فان خسارة الاخوان في مصر شكل ضربة موجعة لمخططات تركيا في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط وأعني هنا حاجة تركيا الى موارد نفطية جديدة.

بعد سقوط مبارك زار أردوغان مصر كرئيس وزراء، والتقى وقتها المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصفته الرجل الأول في مصر نتيجة للفراغ الدستوري الذي حدث، وتحدث عن بناء دولة وفقا للنموذج العلماني التركي والواضح أن تركيا كانت تريد اغتنام أوضاع ما بعد الثورة في مصر وحاجتها الى حلفاء أقوياء لتقترب أكثر فأكثر من القاهرة وتبعدها عن بعدها الإقليمي الذي كان يتميز بعلاقات جيدة مع دول الخليج في فترة حسني مبارك، لكن الإشارات التي أرسلتها القيادة في مصر حينها لم تذهب في الاتجاه الذي يريد أن يرسمه أردوغان بإملاءات لسياستها الخارجية، وما أن جاء الاخوان على رأس السلطة حتى تغيرت الأمور رأسا على عقب فالإخوان كانوا مستعدين لتقديم أي شيء مقابل وجود حليف يستفيدون من خبرته في إدارة شؤون البلاد ويعوض عنهم تدهور العلاقات مع البعد الإقليمي، حتى وان تكلف ذلك تقديم تنازلات أو الدخول في اللعبة التركية التي كانت تجري في سوريا وتوريط الجيش المصري فيها اما من خلال تدريب عناصر سورية مسلحة أو دور على أرض المعركة وهو الأمر الذي رفضته القيادة العسكرية في مصر جملة وتفصيلا وبلهجة حادة تؤكد فيها للرئيس بأن دور الجيش هو حماية حدود مصر فحسب، وبعد أن سقط الاخوان حاولت تركيا أن تعيد الجماعة الى المشهد من خلال شبكات سعت لتنفيذ مخططات على مراحل هدفها اضعاف الدولة المصرية وزرع الشك في نفوس المصريين بمنظومتهم الأمنية ومن ثم العودة الى الشوارع لإسقاط الدولة.

اليوم وبعد أن عاد الدور المصري في المسائل الإقليمية واستعادت العلاقات الخارجية عافيتها ونجحت أكثر تعميق علاقاتها الاقليمية والدولية، اتضح لتركيا أن الاستمرار في معالجة الملف المصري بنفس الطريقة لن يجدي نفعا ولن يصل الى أي نتيجة، وبعد أن نجحت تركيا في الحصول على ما تريده من ليبيا ووقعت مؤخرا على اتفاق النفط والغاز مع حكومة الدبيبة، أصبح البحث عن علاقات أكثر اتزانا مع مصر ضرورة للمرور الى الخطوات التنفيذية للاتفاق مع الحكومة الليبية، في محاولة لشرعنه الاتفاق الحاصل الذي تراه القاهرة غير قانوني، ولهذا وجوب فتح قنوات حوار مع مصر قد يجنب تركيا مغبة الدخول في المتاهات القانونية التي من شأنها أن تعطل الخطوات العملية للاستفادة من نفط ليبيا وقد تكون خلايا الاخوان أول كبش فداء تقدمه أنقرة للقاهرة من خلال وقف نشاطهم على الأراضي التركية كبادرة بإمكانها ان تصلح العلاقات بين الطرفين وتجعل القاهرة تتحرك مع اليونان لا الى الحل القانوني في مسألة الاتفاق التركي الليبي.

وعلى رغم من الخلاف الدائر حول النفود التركي غرب مصر والذي بإمكانه أن يحول دون انتقال المصافحة الى مصالحة حقيقية، الا أن التقارب بين أنقرة والقاهرة يبقى أمرا ضروريا للطرفين: تركيا تحتاج إلى مصر بقدر ما تحتاج مصر إلى تركيا، فكلتاهما دولتان قويتان ولهما عناصر قوة مختلفة ومتفقة على مستويات عدة يمكن لها أن تحقق لهما توازنًا في القوي يحول دون أن يطغى أيٌّ منهما على دور الآخر ومكانته، وهذا ما يدفعني الى توقع رؤية أردوغان في زيارة رسمية الى مصر في الأشهر القادمة التي ربما ستذيب جبل الجليد بين البلدين..... على كل حال ستؤكد الأيام المقبلة آن الطرفين سيمضيان قدما نحو مستقبل علاقات مثمرة تطوى فيها صفحة عقد كامل من الجفاء والعداء .