مع دخول الاحتجاجات الشعبية الإيرانية شهرها الرابع، لا يزال يجد النظام الإيراني نفسه في مواجهة مزاج ثوري مستمر ومتقد نجح في كسر محرّمات النظام وزعزع ركائزه العقائدية بعد فشله في قمع الاحتجاجات رغم استخدامه كل وسائل ترهيب المحتجين التي كان آخرها تعليق المشانق.

فالمتتبع لسير التظاهرات والاحتجاجات التي اندلعت على خلفية مقتل الشابة الإيرانية – الكردية مهسا أميني في 16 سبتمبر/ أيلول الماضي، لا بدّ وأن يقف عند ثلاثة أمور أساسية تشكل أهم ركائز المزاج الثوري للمحتجين في إيران.

الأمر الأول، وجود مجموعة من العوامل الضمنية، التي يطغى عليها الطابعان الاجتماعي والديني، وتغذيها بعض القضايا الاقتصادية الملحة، أدّت إلى اندلاع تلك الاحتجاجات وامتدادها وتجاوزها الانتماءات الإثنية والعرقية، والتي تعكس بدورها أيضاً حجم الاحتقان الداخلي في المجتمع الإيراني وتقدّم أكبر دليل على أنّ الاستقرار الذي كان ظاهراً على السطح لا يعبّر عن حالة الرفض والغليان الذي يمور في البلاد.

ومن يتأمل بعناية تطوّر خطاب المحتجين والمتظاهرين وراديكالية شعاراتهم، التي اتسمت بجرأة أكبر في البعد العقائدي السياسي برفعها شعارات "الموت للديكتاتور"، يدرك بوضوح توق الشارع الإيراني إلى تغيير سياسي على مستوى النظام ككل وتركيبته الأيديولوجية، وهذا الأمر يدلل بوضوح على وجود فجوة كبيرة بين تطلعات الإيرانيين واهتماماتهم وبين سياسات النظام المتصلة بقضايا داخلية ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية أو تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية وطموحاتها الإقليمية، وبالتالي من الصعب على المحتجين أن يستكينوا ويقبلوا بالتراجع عن مطالبهم، خصوصاً أن هناك جيل كامل من الإيرانيين "جيل الزد" لم تعد تربطه أية علاقة ولاء بنظام الحكم، ولا بقيمه ومقولاته، فما حشدوه من طاقات وحققوه من مكاسب يرفع الآمال والتوقعات للحد الذي يجعل أشد المشككين فيها من أصحاب السلطة عاجزاً عن تجاهلها، لذا يمكن القول إنّ هذه الاحتجاجات نجحت في أكثر ما فشلت فيه الاحتجاجات السابقة، وهو الاستمرار رغم كل القيود الأمنية التي فرضها النظام خلال الأشهر الثلاثة الماضية، فكلما طال أمد الاحتجاجات كلما زاد زخمها وقوتها وأصبح من الواضح أنّه لا يمكن كسرها والقضاء عليها ببساطة.

الأمر الثاني، عجز النظام الإيراني عن صياغة خطاب متماسك، أو تبني استراتيجية فاعلة للتعامل مع ما يبدو أنّه أكبر وأشد أزمة وجودية يواجهها النظام الإيراني منذ عقود، وهذا الأمر يمكن استخلاصه من الارتباك والتلعثم في الكيفية التي يُقارب بها النظام الإيراني هذه الأزمة، فتمسك النظام الإيراني بروايته المعهودة، بكون ما يحصل ليس إلا مؤامرة خارجية بأيادٍ داخلية عميلة على حد وصفه، تهدف لضرب نظام الجمهورية الإيرانية، يوسّع الهوة بين النظام والقطاعات الشعبية المتعددة، ويجعل من إرادة وعزيمة المحتجين أقوى وأثبت، بحيث بات من شبه المؤكد أن هذا الارتباك والتلعثم يعكس خلافات داخل النظام قد تكون بشكلها جزئية أو تكتيكية حول أفضل السبل للرد على الاحتجاجات الحالية في الشوارع الإيرانية، لكنها في جوهرها قد تنطوي على خلافات أكثر عمقاً حول أولويات النظام وقيمه، خصوصاً أنّ الحركة الاحتجاجية التي أسست لحالة التمرد في الشارع الإيراني بدأت تترك تداعياتها على بُنية النظام الداخلية، بعد أن دفعت بعض كبار شخصيات الثورة والدولة إلى نوع من التبرؤ من أفعال النظام وتصرفاته.

الأمر الثالث، شيوع حالة من التشكيك وعدم الثقة من قِبل المتظاهرين في نوايا النظام الإيراني وخطواته وتنازلاته، فقرار حل "شرطة الأخلاق" أو ما يُعرف باسم "دوريات الإرشاد"، الذي اعتبره البعض تنازلاً من قبل النظام ومكسباً استطاع المتظاهرون تحقيقه، لم يؤثر على كثافة المشاركة في الاحتجاجات وانتشارها، لأن المتظاهرين والمحتجين يدركون أن قرار حل "شرطة الأخلاق"، جاء ملتبساً بالشكل وفارغاً بالمضمون، فهو لا يشير إلى تغيّر في التوجه المتشدد ذي الطابع الديني للنظام الإيراني الذي ما يزال يعيش في وهم طوباوي يعتقد فيه أنّه مكلّف بتهيئة الأرض لخروج المخلص المهدي، بقدر ما يشير إلى إدراكه لحجم المأزق الذي يواجهه والضغط الشديد المطبق عليه، وهو ما استلزم من جانبه إبداء بعض المرونة، وربما تقديم تنازلات، والمناورة لكسب مزيد من الوقت للإفلات من الضغوط المتزايدة عليه داخلياً وخارجياً، فكما هو المعروف جيداً أن الأنظمة الاستبدادية لا تلجأ إلى تقديم التنازلات إلا إذا شعرت بضغط كبير قد يقودها إلى الانهيار.

حاصل الأمر وجوهره، ربما قد يكون من الصعب بناء توقعات أكيدة وجازمة بشأن مستقبل النظام الإيراني ومآلات الحركة الاحتجاجية الراهنة، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إنّ المزاج الثوري المتقد في إيران أصبح من الصعب إطفاءه بعد النجاح في كسر محرمات النظام، فالنظام الإيراني قد يتمكن من قمع المتظاهرين، لكنه لن يتمكن من قمع المزاج الثوري، فمع استمرار التظاهرات والاحتجاجات ودخولها الشهر الرابع، أصبح من الواضح للجميع أنّ النظام الإيراني يواجه حراكاً يستهدف الأفكار الأساسية والأيديولوجية الأساسية التي قام عليها هذا النظام من جيل لم يحضر أحداثها، ويبدو أقل التزاماً وتقبُّلاّ للمبدأ الديني الذي تأسس عليه الحكم في البلاد، لذا يمكن القول إنّه حتى لو تمكن النظام من قمع التظاهرات والاحتجاجات فإن الأسباب وراءها ستظل قائمة وهو ما يجعل النظام في مشكلة لسنوات مقبلة ستُكسر فيها الكثير من المحرّمات والمقدسات التي بقيت صامدة لعقود.