لم يكن "طوفان الأقصى" مجرد جولة جديدة من الصراع بين حركة حماس وإسرائيل تنتهي في أيام معدودة بهدنة يرتبها الوسطاء دون عناء كبير في المفاوضات. في الحقيقة، كان الحدث ذو تأثير عميق على ديناميكيات منطقة الشرق الأوسط، بل تجاوز تأثيره حدود المنطقة عندما امتدت انعكاساته إلى الشوارع والميادين الغربية وأحدث إحراجًا كبيرًا لبعض الحكومات، كما أثر على الأمن الغذائي العالمي وسلاسل التوريد العالمية مع دخول الحوثيين على خط المواجهة وتنفيذهم لعشرات الهجمات ضد السفن التجارية وتصعيدهم للتوترات في البحر الأحمر. كانت هذه استراتيجية تهدف إلى توسيع نطاق المواجهة لإظهار امتداد محور المقاومة وقدرته على التأثير من على بعد آلاف الكيلومترات.

لا شك أن الحرب المتواصلة في قطاع غزة وفشل التوصل إلى تهدئة أو حتى احتواء الحرب لا يخدم اقتصاد المنطقة ككل، لما لها من تبعات على سلاسل التوريد في منطقة البحر الأحمر. هذا قد يؤدي إلى فرض المزيد من القيود التجارية والتعريفات الجمركية. كما أن التوترات الممتدة في البحر الأحمر تجعل الوصول إلى الأسواق أكثر صعوبة وتزيد التكاليف بالنسبة إلى الشركات. قد تدفع حالة عدم اليقين الناجمة عن الصراعات الجيوسياسية المستثمرين والشركات إلى التصرف بحذر أكبر وحجب الاستثمارات، مما يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي وأداء الأعمال، فضلاً عن التداعيات غير المباشرة على الحياة اليومية للمجتمعات، وبالأخص على الطبقة الفقيرة والمتوسطة مع ارتفاع أسعار الغذاء نتيجة لتعطل سلاسل التوريد.

أعاد "طوفان الأقصى" القضية الفلسطينية مرة أخرى إلى صدارة الجغرافيا السياسية، لكنه في الواقع ارتد بعنف على سكان قطاع غزة وألقى بثقله على كاهل مئات الآلاف من الأسر التي تعايش الحرب عن قرب. تسببت القيود المستمرة المفروضة على المساعدات الإنسانية في قطاع غزة وما حوله في نقص حاد في الغذاء والوقود والأدوية والمعدات والعاملين في المجال الإنساني. ولا يزال هناك مئات الآلاف من الأشخاص في شمال قطاع غزة محرومين إلى حد كبير من المساعدات. بالرغم من دخول كمية كبيرة من المساعدات إلى قطاع غزة، فإن هذه المكاسب ضاعت منذ بدء العمليات في مدينة رفح، مما أدى إلى إغلاق معبر حدودي كان بمثابة مركز للمساعدات الإنسانية.

تشير التقديرات إلى أن تكاليف إعادة إعمار قطاع غزة قد تصل إلى 80 مليار دولار نظرًا لحجم الضرر الهائل الذي لحق بالبنية التحتية، حيث تم الإبلاغ عن تضرر 60 بالمئة من المباني السكنية و80 بالمئة من المنشآت التجارية. وفيما يتعلق بالأمن الغذائي، من المتوقع أن يواجه ما يزيد عن مليون شخص مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي تصل إلى المرحلة الخامسة.

الأثر النفسي للحرب لا يقل ضررًا عن الأثر المادي؛ فقدان الأحباب، والخوف على الحياة، والقصف، والفرار، والجوع والعطش: أشياء لا ينبغي أن يتعرض لها أي طفل على الإطلاق. هذه هي الواقع اليومي للفتيات والفتيان في قطاع غزة. وفي الوقت نفسه، أصبح من الصعب بشكل متزايد على المساعدين العاملين في الموقع تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهم. يظهر ذلك من خلال دراسة استقصائية جديدة أجرتها منظمة إنقاذ الطفولة، شارك فيها الآباء ومقدمو الرعاية والمنظمات الشريكة المحلية، بالإضافة إلى الشباب وخبراء الصحة العقلية في المنطقة. لقد انهارت بالكامل الرعاية التي تقدمها المراكز النفسية والاجتماعية العامة الستة ومستشفى الطب النفسي الوحيد في قطاع غزة.

إقرأ أيضاً: هل تستجيب إسرائيل لمحكمة العدل الدولية بحل الدولتين؟

في الجهة المقابلة، ونتيجة للصراع المستمر، تزداد المخاوف الأمنية لدى المجتمعات الإسرائيلية، خاصة في المناطق القريبة من بؤرة الصراع، حيث يتواجد عشرات الآلاف من الإسرائيليين تحت تهديد دائم من الهجمات الصاروخية التي تأتي إما من قطاع غزة أو لبنان. هذا يستلزم الاستخدام المتكرر للملاجئ ويعطل الحياة اليومية ويرفع من مستويات الصدمات النفسية نتيجة التعرض لأصوات القصف.

تشير تقديرات الخبير الاقتصادي الإسرائيلي ياكوف شينين إلى أن فاتورة الحرب على إسرائيل قد تصل إلى 120 مليار دولار أو 20 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد. ومع ازدياد العجز، وانخفاض التصنيف الائتماني، وتضرر قطاع السياحة، فضلاً عن الإنفاق العام المثير للجدل على القطاع الحربي، تواجه إسرائيل العديد من التحديات. حاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو طمأنة الإسرائيليين بالقول إنَّ التأثيرات ستكون مؤقتة. ومع ذلك، أثرت الحرب بشدة على آلاف الشركات الصغيرة وهزت الثقة الدولية في الاقتصاد الذي كان يعتبر ذات يوم نموذجًا لريادة الأعمال.

إقرأ أيضاً: تنامي نفوذ السنوار يزيد حرب غزة اشتعالاً

الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يثبت، على مر التجارب، أن العواقب الحقيقية له تتجاوز أبعاده السياسية، وأن اللجوء إلى العنف كوسيلة إما لتحقيق الحقوق أو لانتزاعها لا يجدي نفعًا، بل يلحق الضرر بالطرفين على حد سواء. الإحباط والمعاناة التي يعاني منها الناس على جانبي الصراع دفعت الكثيرين إلى الاعتقاد بأن الإجماع على حل الدولتين هو أمر ضروري، لكن هذا الحل يبدو أبعد من ذي قبل في ظل وجود حكومة إسرائيلية متطرفة يدعو بعض وزرائها إلى إلغاء خطة فك الارتباط والعودة إلى نشاط الاستيطان في قطاع غزة وأراضٍ في الضفة الغربية وإنكار الهوية الفلسطينية، وفي ظل وجود حركة فلسطينية ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل وتنادي بالقضاء عليها.

على عكس حكومة نتنياهو وقادة حماس، تفهم الشعوب أنها ضحية مسار سياسي فاشل أدى إلى تعقيد الصراع ووصوله إلى مستويات عالية من العنف المتبادل. كما تعي أنها بحاجة إلى مزيد من التعاطف والتفاهم لسد الفجوة التي تحول دون تحقيق حلم الدولتين، وهو الحل الوحيد الذي يكفل عدم اشتعال الصراع مجددًا. ولا شك أن فرص إعادة إحياء عملية السلام بعد "طوفان الأقصى" ستكون اختبارًا حقيقيًا لحسن النوايا وللمجتمع الدولي ككل.