لم يخطئ باولو كويلو عندما قال: نحتاج أحيانا لنبتعد حتى نعثر على ما هو قريب. لم أعتقد أبدا أن جولتي الثانية في اوراسيا والتي بدأتها من وارسو عاصمة بولندا سيكون لها جذوراً من دبي حيث أقيم.

شجرة الزيتون
تعود هذه الجذور إلى أنه في نهاية العام المنصرم، شاركت في ورشة فخار، صنعت حينها سلّة صغيرة ارتبطت بسرّ خاص بي، وقد أشرفت عليّ شابة ماهرة، تحدثنا سويّا حينها وسألتها عن نفسها فأخبرتني أنها بولندية الأصل من أحد أطراف أبويها. عندما رأت سلتي شجعتني على تزيينها، وأعطتني نقشة جاهزة على شكل ورق الزيتون لحفرها على السلّة. ورق الزيتون مشهور في كل مكان لأنه يرمز إلى الحياة والخصوبة.

وخزة عابرة
عندما وصلت إلى فندقي في وارسو، لاحظت وجود قطعة من الفخار عليها تماما ذات نقشة ورق الزيتون التي حفرت عليها سلتي، حتى بذات الأبعاد. شعرت بوخزة خفيفة عابرة، هذه الوخزة التي تشبه القشعريرة الناتجة عندما نتذكر شيء قريب مرتبط بأثر ما، ويتبعنا بطريقة ما.. كان الطقس بديعًا، نسمات باردة مع زخات من المطر.

استمرت جولتي في وارسو ثلاث أيام، كانت قصيرة نسبيا لكنها كافية لاختبار فصلي الشتاء والصيف. أحببت جدا المدينة القديمة، أحببت ترتيبها، تناسقها، انسجامها شعرت وكأنها متقوقعة على ذاتها، قطعت الطريق الملكي الذي يقود الى القصر وحدائقه، وسررت جدا برؤية المكان الأول الذي عزف فيه الموسيقار الكبير شوبان Chopin أولى معزوفاته.

محطات بولندية
استرجعت طفولتي، كأنني احضر رسوما متحركة، تلك البيوت الصغيرة التي كنا نرسمها بقراميد ملونة مع مداخن، نوافذها مستطيلة، علما أن المدينة القديمة مرممّة بالكامل، ولم تكن كذلك سابقا؛ إذ من يقرأ تاريخ بولندا يدرك كم من المآسي عاشت، لقد اختفت البلاد أكثر من مئة عام عن الخريطة، في البدايات كانت تابعة للإمبراطورية النمساوية-المجرية ثم تنازع عليها السوفييت والألمان (النازيين) ولذلك من يزور المدينة لا بد أن يعلم أنّ رمزها هو حورية البحر (نصف سمكة ونصف إنسان)، وعلمها اللونين الأبيض والأحمر في كناية عن الانقسام الذي مرّت به. لكنها استطاعت النهوض كسائر دول أوروبا التي تدمّرت، وهذا يكفي لاستنشاق الأمل للنهوض بدولنا العربية من جديد.

زرت في وارسو، قصر الثقافة والعلوم، هذا القصر هو عبارة عن برج، أهداها إياها السوفيت عندما استقلّت بولندا بعد الحرب العالمية الثانية، ويمكن اعتباره "البرج الثامن" للأبراج السبعة الستالينية الموجودة في موسكو. أجزم ان حكومة بولندا لو استطاعت التخلص من هذا البرج في إطار عدائها لروسيا، وتخلصها من الرموز السوفياتية لفعلت، ولكنه وجهة سياحية هامة ويدر عليها المال.


البرج السوفياتي في وارسو


كراكوف
في اليوم الثالث انتقلت الى المدينة الثانية في بولندا – كراكوف- مدينة العالم الفيزيائي الشهير كوبرنيكوس Copernicus وهي أكثر جمالا بنظري من وارسو، أشرح للقلب، أريح للنظر، تتسابق الحناتير في ساحاتها الواسعة، يقطعها نهر فيستولا الذي لن أنسي تدرجات ألوان البنفسجي عليه وقت الغروب، وتعلوها قلعة فافل وهي القلعة الأشهر في بولندا.

عندما كنت أتعرف على تاريخ المدينة في جولة سياحية، أخبرنا المرشد أن كراكوف تعتز بنفسها جدا، لأن قائد الجيش النمساوي الذي أوقف تمدد الجيش العثماني أيام السلطان سليمان القانوني إلى اوروبا، كان أصله من كراكوف.

ضحكت خلسة وقلت بيني وبين نفسي: عن أي مجد تتحدث؟! فمن زار المدينة يعرف ان تركيا قد غزت هذه البلاد عقودا للأمام، بقوتها الناعمة، اذ لا تكاد تسير خطوتين في كراكوف حتى تجد عربات خبز "السيميت" التركي (Simit) في كل مكان، ومطاعم الكباب الشعبية على امتداد كل 100 متر.


عبق التاريخ في كراكوف


الهوية الثقافية
عموما، بدا لي أن المجتمع البولندي قد تعافى بشكل كبير من حقبات تاريخه التراجيدية وتحديدا من الحقبة السوفياتية، وهو بشكل عام يميل إلى العولمة الغربية، مع احتفاظه بهويته وثقافته ولغته، فهو لا يقبل الحديث بالروسية على الرغم من الجذور السلافية الواحدة للغة، وحريص ألا يتحدث الإنكليزية او أي لغات أخرى إلا مع السياّح، هذا طبعا إن كان يتحدث اللغة أصلا، كسائر المجتمعات الأوروبية.

تابعت محطتي التالية إلى سلوفاكيا. أنا من عشاق القطارات، وأهوى الجلوس بالقرب من النافذة، أمامي فنجان قهوة، وأضع السماعات على اذني لأستمع من هاتفي إلى الموسيقي. إنني أنتقى الأغاني التي ترافقني خلال رحلاتي بدقة لأنها جزء كبير من متعتي في السفر.. اللحن يأخذني إلى هناك..

براتيسلافا
وصلت العاصمة براتيسلافا، وقبل أن أراها، اعتقدت ان وارسو هي أكثر المدن القديمة في أوروبا "الشرقية والغربية" لملمة على نفسها، لكن المدينة القديمة في براتيسلافا برأيي تفوقت في بساطتها ورشاقتها وصغر حجمها. كل الطرق فيها تقود الى الساحة الرئيسية بما فيها قلعتها المميزة، على عكس ليشبونة عاصمة البرتغال على سبيل المثال التي كانت مناطقها متناثرة في كل مكان.

الأجمل بالنسبة لي في هذه الرحلة، كان فندقي. لا أكثر عادة الحديث عن فنادقي، لكني فعلا استمعت جدا بتجربة الفندق في براتيسلافا، فقد كان من سلسلة "بوتيك" Boutique، في المدنية القديمة، وكان له طرازا مشرقيا بامتياز، يشبه البيوت الشرقية القديمة، لن أقول العربية، لكنها أقرب الى بيوت “ماردين” في تركيا، قصور صغيرة، جميع الغرف تطل على الإيوان او الصالون الكبير المرتب على الطراز الغربي، "ستيل" – "Style".

لا أدرى لم استخفيت بسلوفاكيا مسبقا، لقد مررت عليها عام 2021 عندما ذهبت من براغ إلى بودابست، ولم يعني لي إطلاقا حينها أن أتوقف عندها أو أزورها. لكن بعد أن رأيتها اليوم، شعرت بظلمي نحوها، بل وتساءلت على أساس تم ترسيم الحدود بين التشيك وسلوفاكيا عام 1993، فبراغ عاصمة التشيك تحتفظ تقريبا بكل شيء لكونها عاصمة المملكة البوهيمية: الفخامة والحضارة والتاريخ، بينما براتيسلافا أبسط بكثير، تكسوها المقاهي في كل مكان، قلعتها الجميلة والمميزة تتربع في الأعلى، يجتازها نهر الدانوب.. ربما احتفظت سلوفاكيا بالموارد الطبيعية لنفسها، فقد وهبها الله طبيعة خلابة.


الفندق في براتيسلافا

عابرون في البلقان
ختمت رحلتي بانعطافي نحو دول البلقان، عبر النمسا، لأزور سلوفينيا التي تعرفت عليها مؤخرا. أعتقد أن الطريق من سلوفاكيا إلى سلوفينيا قد بشّرني بأن الرحلة ستكون جميلة، اذ على الرغم من طول المسافة، لكنني لم اشعر بالوقت، فمن جهة كنت أجلي عيوني باللون الأخضر والجمال الالهي، ومن جهة أخرى تعرفت على الكثير من المسافرين "العابرين". تعرفت على أربع شبان من بريطانيا، اثنين من لندن، واثنين من غلاسكو، وتعرفت على ألمانية، وفرنسي. سررت بالاستماع لطبائع سفرهم، فالشابين من لندن، زارا تقريبا 4 دول خلال أسبوع، علماً انهم لم يروا شئيا حقيقيا، فقد قدموا من لندن الى جنيف، حيث قضوا ساعات في المطار، ثم من جنيف استقلوا القطار الى النمسا، ومنها الى سلوفاكيا ثم التشيك واظن انهم سيقضون في كل مدنية يوم فقط، في حين أنهم قضوا معظم الوقت في القطار. بالنسبة لهم، حتى مرورهم سريعا على بلدات في القطار تحسب كزيارة بالنسبة إليهم.
أما الألمانية، فقد كانت على موعد لحفلة ستقام في النمسا فقدمت خصيصا لحضورها.

سحر العاصمة
وصلت العاصمة ليوبليانا.. اوه..إنها ساحرة!
أعادتني جولتي في سلوفينيا إلى رحلتي الى إلبوسنة والهرسك. هذا الجمال البلقاني الذي يختلط بالهوى الإيطالي. الجسر الشهير الثلاثي على نهر لوبيانيكا والتنين الشامخ رمز المدينة، كما أن أجمل بحيرات العالم على البحر الادرياتيكي -بليد- تبعد عن العاصمة مسافة 50 دقيقة لتعيدك هي الأخرى إلى أجواء كومو في ايطاليا.

وعلى اعتبار أنى أحب التركيز على تفاصيل المجتمع، بدت لي الوجوه عموما عابسة لكن القلوب دافئة بعكس الكثير من دول أوروبا الغربية حيث الوجوه بشوشة بقلوب باردة.

لم يساعدني الطقس كثيرا في جزيرة بليد لاستكشافها كما يجب، فقد كانت الأمطار غزيرة واستغرقت جولتي سيرا حوالي الساعتين، لذلك قررت العودة إلى فندقي في لوبيانا بسرعة، وقد كنت مبللة تماما، فاقترحت على إدارة الفندق أن أدلل نفسي ببعض الاسترخاء في قسم spa والاستمتاع بالجاكوزي الساخن مع قدح من الشاي الاسيوي، مما أضفى جمالا مضاعفا على رحلتي.

المحطة الأخيرة
كانت سلوفينا هي آخر محطة لي في جولتي الاور اسية الثانية التي امتدت على عشرة أيام. عندما عدت إلى دبي، وفي كل مرة أعود بها من رحلة ما أشعر بنضوجي واختلافي عن الرحلة السابقة، فالسفر هو استثمار في الذات، يجعلك اكثر انفتاحا في التواصل مع الآخر، وربما أكثر انتماءا للكون بكل تفاصيله.
وكما يقول ابن بطوطة: "السفر يدعك عاجزًا عن الكلام، ثم يحولك إلى راوي".