أبي رحمه الله، وأغدق على قبره شآبيب الرحمة، كان يصرف نهاره في وظيفة عادية هي قوام عيشه، وينفق أول المساء إلى الهزيع الأول من الليل في جهد ونصب دائم، وهو قوام مركزه ومكانته التي حازها وسط دائرته.
كان رحمه الله يصل الرحم، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الدهر، كما قالت السيدة خديجة الكبرى، وسفاتة بنت الطائي، وكنت رغم صغري أضيق بهذا كله، وأفصح عن ضيقي في وضوح وجلاء.
كنت أنتظر مقدمه من عمله وأنا فرح مسرور، حتى أستقي من عواطفه ومشاعره الجياشة، فأنا آخر العنقود، وليس من اليسير على آخر العنقود أن يألف تسلط الناس عليه، واعتداءهم على حقوقه. كانت لدي خواطر تجيش في دواخلي، أريد أن أقولها لوالدي لحظة رؤياه، ولكني لا أستطيع أن أوثره بها، فأهل الوصل من أقطاب الصوفية، وأصحاب العلل الروحانية، كانوا ينكرون حقي في والدي، ولا يبيحونه إلا بمقدار، وبمقدار ضئيل كما قال الدكتور طه حسين.
وفي الحق كثير ما كان يقع بيني وبين هؤلاء تنازع وشجار، خاصة حينما أطبق بيدي الصغيرة البضة على أصبع أبي، وأتشبث به في قوة واهية وخشية، وأسير مع الشيخ الجليل، البادي الوقار، بخطى متعثرة خلفه، فيأتي أحدهم غير مبال بعواطف صبي أغر تجاه أبيه، تمثل الضعف الذي ليس بعده ضعف، فيدفعه دفعاً عنه، بل لا يرضى أو يقنع بهذا، فيغلظ عليه القول، لإلحاحه في أن يكون بمعية والده، ويستهجن تهالكه عليه.
رغم كرور الأيام، وتعاقب الحدثان، ما زالت الصور هادئة مستقرة في مكانها، وما زال حنيني إلى والدي كثيراً غزيراً، لا يستغني عن فؤادي، ولا يستغني فؤادي عنه.
التعليقات