عندما تحدث هزة أرضية لثواني معدودة في أي دولة، يهرع المواطنون خوفًا من انهيار مساكنهم على أجسادهم. ولك أن تتخيل الحياة وسط انفجارات وغارات عسكرية وإطلاق نار من كل صوب وحدب، ليل نهار... فكيف يستطيع أي إنسان على الأرض أن يعيش وسط هذه الأجواء المروعة؟ الإجابة ليست صعبة، لأننا نراها بأعيننا على شاشات التلفاز وعبر السوشيل ميديا كل لحظة في قطاع غزة "الجريح"، الذي يشهد أصعب أزمة إنسانية على مر التاريخ، جراء العدوان الغاشم، من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي.

لم تكن هذه المرة هي الأولى التي يشهد فيها قطاع غزة عدوانًا على يد الاحتلال، لكن هذه المرة لا تقارن بما حدث من قبل، فالمشاهد مروعة وحزينة. من يرها أول مرة، قد يظن أنها مشاهد من فيلم "أكشن"، لكنَّ المُفزع أن ما يحدث حقيقة مؤلمة، تتنافى مع كافة المواثيق والأعراف الدولية والإنسانية، التي ضرب بها جيش الاحتلال عرض الحائط، في تحدٍ سافر للعالم أجمع، الذي اكتفى ببيانات الشجب والإدانة، وتقديم حفنة من المال والمساعدات، وعجز عن وقف نزيف دماء الأبرياء الفلسطينيين، وأصبحت الأرواح في غزة لا قيمة لها.

ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ليس مجرد حرب أو عدوان، وإنما خطة إبادة متكاملة لكافة مناحي الحياة على أرض النضال، التي كانت دوماً مطمع الغزاة، ومحط أنظارهم. وقد تغيرت الخطة الممنهجة إلى محاولة التهجير القسري لأصحاب الأرض، والاستيلاء عليها بالكامل، ويظهر ذلك جليًا عندما نشهد كل يوم قيام دولة الاحتلال بالتوسع في إنشاء المستوطنات.

ما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر) يعدّ أمرًا طبيعيًا من جانب المقاومة الفلسطينية، بمثابة ضربة مدوية هزَّت المجتمع الإسرائيلي، كما هزَّت حكومة بنيامين نتنياهو المتغطرس، لما يرتكبه جيش الاحتلال من جرائم بحق الشعب الفلسطيني. لكنَّ عواقب الضربة كانت وخيمة على شعب غزة على وجه الخصوص، فوجه جيش الاحتلال ضربات عنيفة وشن غارات مكثفة، دمرت البنايات فوق رؤوس ساكنيها، في مشاهد مروعة لم تحدث من قبل.

الضربات الإسرائيلية الغاشمة دمرت جنوب غزة بشكل شبه كامل، وطالت المساكن والمستشفيات والمساجد والكنائس والأسواق والمدارس، ولم يسلم منها سوى من كتب له القدر أن يظل على قيد الحياة، وينتظر الموت في كل لحظة. ما فعله جيش الاحتلال في غزة، دمر مختلف مناحي الحياة تمامًا، فأصبح سكان القطاع يعيشون داخل مخيمات ينتظرون المساعدات الإنسانية، التي تصل إليهم بصعوبة شديدة، بسبب القيود التي فرضها الاحتلال.

إقرأ أيضاً: سحق رؤوس الأفاعي بدءاً من طهران

ما يواجهه قطاع غزة كارثة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ نسبة كبيرة من السكان لا تملك قوت اليوم، والجميع يواجه خطر المجاعة بالإضافة إلى انتشار الأمراض، ويتأكد ذلك من خلال الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة في غزة، والتي أفادت باستشهاد أكثر من 23 ألف شخص، بالإضافة إلى إصابة 58 ألفاً و926 آخرين، منهم 70 بالمئة تقريبًا من النساء والأطفال، ونحو 7 آلاف آخرين في عداد المفقودين، بالإضافة إلى نزوح 1.9 مليون شخص داخليًا، أي ما يقرب من 85 بالمئة من السكان.

ويلجأ حوالى 1.4 مليون شخص منهم إلى مرافق الأونروا، ويقيم معظم الباقين مع الأصدقاء أو العائلة أو الغرباء، أو ينامون في العراء. ويعيش الآن حوالى مليون شخص، أي نصف سكان غزة، في منطقة رفح الحدودية الجنوبية وما حولها، بعد أن كان سكانها 280 ألفاً قبل اندلاع الحرب، ولم يُسمح إلا لنحو 1100 شخص بمغادرة غزة عبر معبر رفح إلى مصر.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

تشير الإحصائيات إلى أن حوالى 65 ألف وحدة سكنية قد دمرت، أو لم تعد صالحة للسكنى. وتضرر 290 ألف منزل آخر، مما يعني أن نحو نصف مليون شخص لم يعد لديهم منزل يأوون إليه، في حين أن 500 ألف شخص ليس لديهم منزل، والعديد من الأشخاص سيظلون مشردين بسبب حجم الدمار الذي لحق بالمرافق العامة الحيوية في غزة، بالإضافة إلى أن 23 من أصل 36 مستشفى أصبحت غير صالحة للعمل كليًا، وتعرض نظام التعليم في غزة أيضًا لأضرار بالغة؛ فقد دمرت 104 مدارس أو تعرضت لأضرار جسيمة، وفي المجمل، أُصيب حوالى 70 بالمئة من المباني المدرسية بأضرار، بينما تُستغل المباني القائمة إلى حد كبير لإيواء النازحين داخليًا.

وبسبب النقص في المياه الصالحة للاستهلاك الآدمي، أضحت الظروف مهيأة لانتشار الأمراض، حيث تم الإبلاغ عن أكثر من 100 ألف حالة إسهال، نصفها بين الأطفال دون سن الخامسة. وبحسب إحصائيات الأونروا، فقد كانت تدخل إلى قطاع غزة 20 شاحنة يومياً خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر تشرين الأول (أكتوبر)، و85 شاحنة يوميًا، لكن هذه الأرقام لا تزال أقل بكثير من معدلاتها قبل الحرب، وهو 500 شاحنة في اليوم، ويصعب توزيع المساعدات الإنسانية بسبب القصف الإسرائيلي، الذي أودى بحياة 142 من العاملين في الأونروا، وتضررت بسببه 128 من مباني المنظمة.

إقرأ أيضاً: الديمقراطية الطائفية = دكتاتورية بثياب ملونة

وتعكس الأرقام سالفة الذكر حجم الكارثة الإنسانية التي يمر بها قطاع غزة، وتزداد كل يوم، لعدم التوصل لقرار وقف إطلاق النار، ويدفع المدنيون العُزل ثمن الحرب الغاشمة، وهو الأمر الذي تسبب بموجة غضب واسعة على مستوى العالم، وتأجج الصراع السياسي في المنطقة، بعد قيام الحوثيين باستهداف السفن المتجهة لإسرائيل في البحر الأحمر، ولا أحد حتى الآن يستطيع أن يتنبأ بموعد إنهاء الحرب على غزة.

إن ما يحدث في قطاع غزة من جرائم ضد الإنسانية، يستوجب محاسبة دولة الاحتلال، التي دمرت الأخضر واليابس، وأزهقت أرواحًا بلا ذنب، برعاية وحماية الولايات المتحدة الأميركية التي تدعم الكيان الإسرائيلي، ويقف العالم عاجزًا عن وقف الأفعال الوحشية تجاه المدنيين دون التفرقة بين صغير وكبير، فمن يتواجدون على أرض غزة حاليًا بمثابة "موتى على قيد الحياة"، يفتقدون أبسط سُبل المعيشة، ويواجهون مصيراً مجهولاً بعد فقدانهم كل ما يملكون. لقد أصبح قطاع غزة أشبه بمدينة أشباح، لا يمكن العيش فيه، ولكن أصحاب الأرض يواصلون الصمود أملًا في معجزة إلهية تنقذهم من جحيم الاحتلال، وتعيد الأرض المنهوبة.