لقد أخذ النزاع يشتد بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني، ورئيس المجلس السيادي الانتقالي، وبين الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، قائد قوات الدعم السريع، هذه القوات ذات التاريخ المخضب بالدنايا، نسمح لأنفسنا بعد أن ولغت في طائفة طويلة من المخازي والموبقات، أن ننعتها بكل ما هو سيء وقبيح، دون أن نتحرى في ذلك ضوابط أو حدود، وما نشك قط أن هذه القوات التي انتقلت من طور إلى طور، ومن طائفة خاضعة لحكم الطغاة، إلى جماعة تسعى لأن تستبد بالحكم، وتخضع طبقات الشعب لسطوتها وسلطانها، أن السواد الأعظم من هذا الشعب قد ابتهج لها، أو أظهر القبول والرضى لتصرفاتها، وسنتتبع في هذه السلسلة من المقالات، كيف أن هذه المنظومة الضالة التي تبذل نصف حياتها في سبيل أن تذيق الناس ألوان الذل والمهانة، قد طلبت من الجيش أن يتركها تزهر من غير قيد، وتصول من غير رادع، وعندما رفض الجيش طلبها، تنكرت ونصبت الحرب له. سنقف في هذه المقالات باذن الله على مراحل نشأة الميليشيا المارقة، مروراً باشتداد عودها، واكتمال عقدها، عقب سقوط حكم المشير عمر البشير، انتهاءً بهذه الحرب التي أشعلتها وهي تظن أنها ستخرج منها ظافرة منتصرة.
قوات الدعم السريع أكاد أجزم أن التاريخ على تباينه، يسعى لأن يتخذها مثالاً صارخاً على الوحشية، والبربرية، والتعدي، وأنه في طريقه لأن يسجل في مجلداته الضخمة، ومدوناته العتيدة، أن هذه القوات لا تؤثر إلا الفتك، والقتل، وإزهاق الأرواح، وأنها لا تحمل متاعها وتنتقل من مكان لآخر، إلا لتجعل البشرية ضعيفة منكسرة.
إن الحقيقة التي لا يخالجني فيها شك، والواقع الذي لا تنتابني فيه ريبة، أن أفراد هذه الناجمة لا تتنازعهم العواطف الإنسانية من شفقة ولين، فمثل هذه المشاعر لا تضطرب في دواخلهم إلا وهي مضطرة خجلة عند طفولتهم الغضة، وتتلاشى لاحقاً عندما يبلغون الطور، وتنتهي عند هذا الحد، فالحقائق الثابتة التي لا تتغير جواهرها، أن الناس لا تؤمن إلا بما ترى، ولقد شاهد الناس، كل الناس، تلك العفاريت التي تظهر لهم وتروعهم، وهي ناقمة منهم، وساخطة عليهم، لتنعم بخيرهم، وتقيم في مضاربهم وهي عزيزة النفس، شامخة الأنف، دون أن تفكر في ثمن الطعام والشراب والثياب، هؤلاء الأوزاع يمكن أن ينتهي بهم الأمر، إذا أنت أظهرت امتعاضك من وجودهم في دارك إلى أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه، فيضطروا إلى طردك آسفين، هذا حتماً إذا كنت محظوظاً فلم يصوب أحد "أشاوسهم" تجاهك فوهة بندقيته ليحصد روحك، ويترك بعدها متأففاً جثتك نهباً للكلاب.
لقد تيقن هذا الشعب المكلوم أن عفاريت الجن هذه، التي تكونت مادتها من أحط الطبقات وأدناها، والتي سطت على دورهم، واستحوذت على أملاكهم، وأنفقت مقتنايتهم في ضروب مختلفة من اللذة والترف، أنهم لا يمتون إلى البشرية بصلة، أو يصلون إليها بسبب. إننا شديدو الإيمان والاقتناع بهذه الحقيقة، طغام وأراذل عرب الشتات، الذين وجدوا من يحوطهم، ويعينهم على ما يريدوا، يمكن أن يكونوا أي شيء عدا أنهم بشر، هم مخلوقات مبهمة لا نستطيع تشخيصها في الوقت الراهن، ولكنها على كل حال جديرة بالعناية والاجتهاد، فنحن إذا دنونا من هذه الكائنات الغريبة التي تنكر الحدود، ولا تعترف بحرمة الأوطان، نجدها فقيرة بائسة، تجاهد الحياة جهاداً عنيفاً لتعيش، هذه الفئات السادرة في غيها، الماضية في ضلالها، هم بلا شك ظاهرة يجب أن نقبل على دراستها بشغف، حتى ونحن نعيش في أشد الأوقات حرجاً، وأعظمها ضيقاً، ولعل دراستنا لهذه الطائفة التي يجب أن نجاهدها ونحسن الجهاد، تستدعى منا أن نتناول معها أشياء كثيرة، فنحن لا نريد أن نلم بها إلماماً موجزاً، بل نريد أن يشتد كلفنا بها، نريد أن نعلم لماذا قد أحيل بينهم وبين التحضر؟ ولماذا تستهويهم حياة المكابدة والعناء؟ ولماذا كل هذه الغلظة والجفاء في طباعهم؟ لماذا تنافسهم فيما بينهم، يكون في أيهم أكثر عنفاً في المحافظة على اغتنام السخط من الناس؟ لماذا لا تنتهي عراهم وصلاتهم ببعضهم البعض لعلاقات متينة، ووشائج دافئة، تستدعي أن يظهر الصديق لصديقه عن سره، وأن يخبره بخبيئة نفسه؟ لماذا يغالون في التكتم على دخيلة أمورهم؟ لماذا حياتهم خاوية من كل فضيلة؟ ولماذا هي بعيدة كل البعد عن الأمن والاستقرار؟ ولماذا واحدهم شديد التأثر بأحاديث النساء؟ هل لأن المرأة عندهم ينتهي بها السخط إلى غير حد، إذا صبر زوجها على الفقر والفاقة؟ نريد أيها السادة أن نقترب من هذه الكائنات المبهمة ونسبر غورها، حتى لا تخفى علينا خباياها، ولنعظم حظنا من الدقة، فغايتنا التي ننشدها معرفة الأسباب التي قادت لجعل عربان الشتات مصدراً للشقاء في كل البلاد التي يقدمون إليها، أعلم أن قراء هذا المقال لا ينتظرون مني تحليلاً دقيقاً عن عربان الشتات، فليس لهذا التحليل من سبيل، فمثل هذه الدراسات تتطلب متانة وحيدة، ووأداً للعاطفة، وحرصاً يتبع بعضه بعضاً، حتى تصفو الدراسة من الأكدار والشبهات، والقارئ يستطيع أن يرى بعينه المجردة ما يجيش به صدري من غضب وحنق، وكراهية وبغضاء، لهذه المليشيا المجرمة، التي تعست في حياتها كلها وأتعست غيرها.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وأميركا أفضل من إيران وحماس
من الحقائق التي أتحفتنا بها حرب الخرطوم، أن ميليشيا النهب السريع، تعشق القتل، وتسرف فيه، وأن من أهم الخصال التي يطمح إليها أفرادها، ويعتزون بها، هي الإقدام على القتل والسحل، فالميليشيا لا تبدي إعجابها بفرد من قواتها، أو تظهر افتتانها به، إلا إذا كان هذا الفرد متصلاً بطائفة من السجايا الذميمة، كما أنهم يكبرون السلب ويحرصون عليه، لأنه قوام حياتهم، وقوات النهب السريع قبل أن تدمغ بالميليشيا المأفونة، كنا نعدها من أكثر القوات والميليشيات التي أورد ضعاف العقول فيها الناس الشقاء، فالسيد عبد الرحيم دقلو القائد الثاني في هذه القوات، لا نستطيع أن نضيف إليه، أو نمنحه لقباً غير ذلك اللقب الذي توافق عليه الناس، وتواطؤوا على نعتهم به، كلما قادهم حظهم العاثر لرؤيته عبر شاشة التلفاز أو قرائن الميديا، فالسودانيون إذا تحدث الفريق عبد الرحيم دقلو تعلقوا بشفتيه، حتى إذا فرغ من حديثه، التفوا حول جهاز التلفاز، وكالوا له من الشتم والسباب ما الله به عليم، ورموه بالسماجة والغباء، وأحاديث عبد الرحيم التي لا تخلب الألباب، أو تستهوي العقول، لم يكن الناس يتداولونها، ويحرصون عليها، مثل أحاديث الحاضر الغائب، الفريق أول حميدتي، فأحاديث الرجل الأول في الدعم السريع، يقف تأثيرها عند السخرية والتندر، فالرجل كما نعلم لم يكمل حتى تعليمه الابتدائي، لأجل ذلك لم يكن حديثه حديثاً منظماً، أو يستقي أدبه من أدب مدون، أو فلسفته التي يستظهرها من فلسفة طارفة كانت أو تليدة، هذا إن صح أن لحميدتي فضل من فلسفة، فجل أحاديثه يحيط بها الخطل، وأنت إذا تتبعت خطبه الممجوجة لن تجد فيها دقيقاً ولا جليلاً، ولكنك ستعلم سر هذه الضحكات اللاذعة التي تصدر حتى من كل معجب مفتون بشخصيته.
دعوني أترك هذا الاستطراد الذي تورطت فيه، وأخبركم في لغة ساذجة صريحة، عن طبيعة الجند في الدعم السريع، فإن من أهم المزايا التي تضطرب في دواخل جند تلك المليشيا، أن هؤلاء الجنود من اليسير جداً عليهم قتل الناس وترويعهم وسلبهم كما ذكرت آنفاً، وعن جرائم هذه القوات وفظائعها نستطيع أن ندور ما شاء الله لنا ندور، وأن نحصي لها قائمة حافلة بالسوء والشطط، حتى يأخذنا الرهق والملال، ثم نرى بعد هذا كله أن من حقنا أن نضيف لهذه القائمة أو نزيد، دون أن ندخل لهذه القائمة شيئاً من عند أنفسنا, فهذه القوات التي أسرفت مؤخراً في اتباع محور الشر، والانقياد له، أمست تسعى لهدف غير معقول التحقيق، ولعل من السخف والإطالة التي لا تجدي، أن نحصي كل جرائم هذه القوات في مقالنا المتداعي هذا، ولكن لا ضير من أن نشير إلى أن من أضعف وأوهى هذه الجرائر، التي تتذيل هذه القوائم، أن هذه القوات التي انتصر لها قوم وسخط عليها قوم آخرين، قد أفسدت أصلاً من أصول التعايش السلمي في دارفور والخرطوم، وخرجت بهما عن طرقه المألوفة، وأنها قد جعلت نفراً عظيماً من الناس يقبلون على الخيانة، ويتهالكون عليها، نظير حصدهم للمال، والعيش تحت أقبيته.
إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟
يعود تأسيس هذه القوات المارقة للمشير البشير، الذي يتحمل وزر ومغبة تكوينها، ونحسب أن الهدف من نشأتها لا يحتاج منا إلى توضيح كبير، فهي قوات هوجاء همجية، قائمة على الجهل والتعصب قبل كل شيء، وفي الحق أن هذه القوات قد انتحلت مذهباً جديداً، ولغة جديدة في الكريهة والهيجاء، لغة لم تكن هذه القوات السادية ترغب في أن يفهمها الناس، خصوصاً الناس الذين يريدون أن يأخذوا بحظهم في الحياة، وينغمسوا في ملذاتها, البشير ورهطه لم يكن همهم أن يفهم الناس هذه اللغة، أو يحيطوا بمفرداتها، ويسوءنا أن نقول أن المشير البشير، الذي كان مشفقاً كل الإشفاق على صولجان حكمه، لم يسعَ لتحجيم هذه اللغة، أو يصرف الناس عن شرها، ولكننا نقر بأنه قد سعى لأن يحد من أصولها وقواعدها، بالرغم من أنه لم يكن يحفل بما يدخله حميدتي على هذه اللغة، ولا بما أضافه، إلا إذا تجاوز نفوذها دوائر دارفور، وتخوم كردفان، ومن نافلة القول أن المشير البشير، حينما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأخذت جموع الحانقين على حكمه بخناقه قبل عدة أعوام، وحتى تأمن عينيه شر هذا الخطر، أغفل البشير عن ازوراره لهذه اللغة، وأرسل إلى حميدتي ملتمساً عنده النجدة، حتى يقي حكمه مخاطر الزوال، وهو يجهل أن حميدتي ربان لغة الإبادة والتنكيل وسيدها في دارفور الكليمة، قد استحالت آماله وأطماعه إلى نفس الشيء الذي يسعى إليه المشير، لقد اشرأبت آمال حميدتي للحكم، وتاقت نفسه إليه، وقرر أن يخذل الرجل الذي أنفق دهراً من حياته للحفاظ على عرشه. ومما لا مرية فيه، أننا سنصحب حميدتي في رحلة تطلعاته تلك، حتى تنتهي بنا إلى شيء يشبه الذهول، وذلك حينما نعلم أن رغبة حميدتي في السلطة، قد تعارضت مع رغبة الفريق الأول البرهان قائد الجيش، ونحن نعترف أن الجيش السوداني يخالف قوات الدعم السريع في نهجها، وفي لغتها أشد المخالفة، فالجيش الذي اختار من نظمه صوراً مختلطة، ومد به تلك القوات، كان يملك قوة في الجدال، وبراعة في المناقشة، لإقناع المشير البشير ثم الفريق أول البرهان من بعده، بمخاطر هذه القوات، فقد منحا هذه القوات الكفاية المادية والمعنوية، حتى خرجت من قمقمها وصاولت القوات المسلحة بناب صلد، ومخلب قاتل، ونحن إذا أردنا أن نستقصي مسيرة الدعم السريع، منذ أن كانت طائفة من غوغاء البشر ترتهن بأمر البشير، ويقدم له قائدها فروض الولاء والطاعة، هذا قبل أن ترسخ في نفسه قناعات، مفادها أن شخصيته خليقة أن تعادل شخصية قائده، بل تبزها وتتفوق عليها، نحتاج إلى مقال آخر مقروناً بالشواهد، يحفز في نفس المتابع الميل إلى قراءته.
نواصل ما اتصل الأجل.
التعليقات