الغريب أنَّ الوالد أدرك، لأسباب معينة، بأن هناك تحركاً لا يقل خطراً من مرسوم الاستيلاء، ورجح أنَّ السلطة تخطط لخلق صراع ضمن القرية، وهو ما لم يحدث، كما ذكر بأن الاستيلاء سيتأخر، وفعلاً تأجل تطبيق الاستيلاء على نصران حتى 7 حزيران (يونيو) عام 1986، لذلك، ولما نوه إليه، ترك الوالد القرية وهجرها ليسكن والعائلة ومن تبقى من الأخوة في المدينة، وفعلاً تبين لاحقاً أن قرار مصادرة الأملاك، وليس فقط الاستيلاء على الأرض، كان قد صدر بعد انتهاء لجنة التحديد والتحرير من عملها في عام 1972، ولم تبلغ إلا بعد سنوات لتصبح العملية قانونية، وقد بلغ الوالد بها رسمياً في عام 1984، وبحضور الأخ عباس عباس، وليس كما ورد في نص اللجنة على أنه كان في عام 1985.

الأغرب، وبعد محاولات الوالد تقديم شكاوى عدة إلى القصر الجمهوري طوال السنوات العشر السابقة، وبالتأكيد لم تسفر عن نتيجة، أمر المحافظ، ورئيس الأمن العسكري حسب بعض التسريبات، بإعادة النظر في المصادرة وتشكيل لجنة خاصة لذلك، وجاء في محضرهم التالي (لجنة الاستيلاء الفرعية المشكلة بقرار السيد محافظ الحسكة رقم (1184) تاريخ 23/4/1984 والمؤلفة من السادة...) وهم ستة أشخاص (زكريا السيد حقوقي - رئيس؛ ياسين إبراهيم أغا - مهندس زراعي؛ يونان شليمون - مساح؛ حسين العزاوي - مندوب الحزب؛ عبد الرحمن عبد الله - مندوب الفلاحين؛ إسماعيل عثمان - مراقب وأميناً للسر) تعديل قرار مصادرة جميع أملاك العائلة المنقولة وغير المنقولة، إلى الاكتفاء بتطبيق ما جاء في محضر الاستيلاء، وبدأ حكم اللجنة بالتالي (بعد الاطلاع على الفقرة (7) القضية (7) من محضر جلسة لجنة الاعتماد رقم (1) تاريخ 31/10/1986 والتي تم بموجبها ألغاء محضر المصادرة المنظم بحق المالك محمد العباس والمؤرخ في تاريخ 20/10/1985 واعتباره حسن النية والاكتفاء بالاستيلاء على الأراضي الزائدة لديه بعد إعطائه المساحة المستحقة من الاحتفاظ والتنازل...).

والمصادرة كانت تشمل جميع الأملاك، البيوت وأراضي القرية، ومن ضمنها أراضي الفلاحين، لأنهم ليسوا منتفعين، واعتبروها من ضمن أملاك العائلة في القرية، إلى جانب قطيع الماشية، وأثاث البيوت وغيرها، ولعلم الوالد بذلك، ترك القرية كلياً لئلا يرغم على التوقيع على التنازل كما ورد في نص القرار بـ(حسن النية) وما ورد في النص كان خداعاً للتغطية على الحقيقة؛ وإيهام المطلعين بأن الوالد تنازل لقرار الاستيلاء، والواقع هو خلاف ذلك، لم يوقع الوالد القرار كلياً ولم يعد إلى القرية إلا في زيارات عابرة وظل في قامشلو حتى وفاته.

بعد الانتقال إلى قامشلو وبتخطيط، انهدمت المنازل والديوان في القرية وأصبحت أطلالاً، ولم يعد إليها أي من أفراد العائلة كلياً طوال ربع قرن، باستثناء زيارات عابرة، إلا قبل قرابة سنتين بعودة الأخ عباس عباس من ألمانيا عام 2023، وقيامه ببناء دار فوق تلك الأطلال، يسكنها الآن، تشاركه في السكن كبيرة العائلة الأخت سعادة ومعها رفعه، ابنة العمة المرحومة فاطمة.

لم تكن قد بقيت للعائلة أملاك في المدينة أيضاً، وقد كان واضحاً للوالد أنه إذا امتلك داراً في قامشلو، فستتم مصادرته، وبقيت الحالة تلك لأكثر من عقد من الزمن، أي بدون أملاك وبيت في القرية والمدينة، إلى أن تم تنفيذ قرار الاستيلاء في عام 1986، بنص خبيث وقرار عنصري، بعدها اشترى الوالد بيتاً في المدينة.

لا أعرض الماضي من باب المظلومية، وقد تجاوزنا هذا المنطق، فمن السذاجة محاولة إقناع الأعداء والطلب منهم إزالة مخلفاتها، أو حتى عرضها على المحاكم الإنسانية، وهي منظمات ترضخ لمصالح الدول، شبه معدومة في حضور القضية الكوردية، بل نعيد التذكير بها على أمل أن يوقظ حراكنا المتصارعين، ولتعرية السلطات الحالية المحتلة لكوردستان، والتي ما زالت مستمرة في مخططاتها وتحاول تطبيقها بأساليب مختلفة تتلاءم والعصر، كما وهي شهادة لتصحيح التاريخ المحرف وأخذ العبر لإنجاح حاضرنا.

أذكر بعد سنتين من أعمال اللجنة، أي في بداية صيف عام 1974، وكنت حينها في الثانية والعشرين من العمر، اصطدمت بأحد أمر اللحظات في حياتي، أثناء مراجعة دوائر الحسكة لعمل يتعلق بالملكية، عندما قيل لي إنهم سيعيدون النظر في ملكية العديد من القرى الكوردية المتبقية والتي لم يتم الاستيلاء عليها، حيث تتولى السلطة تعديل القرارات السابقة، ومنها قرار الإصلاح الزراعي ومزارع الدولة، وستصدر عن قريب مرسوماً جديداً لتخفيض سقف الملكية، وهو ما تم كما ذكرت فعلاً، فجرى تخفيض الملكية من 120 هكتاراً إلى 85 هكتاراً بعل.

يتبع...

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (1)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (2)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (3)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (4)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (5)