في اليومين الأخيرين، وعندما كان رئيس اللجنة يكتب التقرير النهائي بخط منمق، كما ذكرت سابقاً، قال، وكأنه يخاطب ذاته لكني كنت المعني بكلماته، إن سقف الملكية هي 120 هكتاراً، وأضاف: "إنها كثيرة"!

من الغريب أن السلطة، وبعد مرحلة هذه اللجان بسنوات، أصدرت المرسوم التشريعي رقم 31، الذي خفض سقف الملكية إلى 85 هكتاراً، وبأمر جمهوري، وكأن رئيس اللجنة كان على دراية بما كان يخطط له في أروقة النظام، أي الاستيلاء على أراضي جديدة، وذلك بعد الانتهاء من المرحلة الأولى في بناء المستوطنات؛ والبدء بالثانية، حيث توسيع وتعميق مسيرة التعريب.

في الواقع الفعلي، ما ترك من ملكية الوالد مع جميع الأخوة والوالدتين لقرية نصران بعد عزل ملكية الفلاحين، كان مخططاً للقضاء على البنية الاجتماعية والاقتصادية في القرية كجزء من كلية المجتمع الكوردي، ومن خلال ذلك الحد من مسيرة الأخوة الطامحين للحصول على التعليم العالي، والذي كان يتطلب العيش في المدن الكبرى والتكاليف العالية، وذلك من خلال تدمير الحالة المعيشية، وقد كان ذلك نموذجاً لما آل إليه حال معظم عائلات الملاكين الكورد والفلاحين أيضاً.

لإدراج الفلاحين وعائلاتهم وأبنائهم في هذا الواقع، لم تسمح السلطة بانتفاع الفلاحين من الأراضي التي كانوا يستثمرونها بتوزيع من الوالد منذ بناء قرية نصران، وعلى الأغلب لم يفعلوا ذلك لسببين، إلى جانب ما نوهنا إليه، أي التدمير الثقافي والاقتصادي:

1 - لئلا ينقلوا الفلاح الكوردي من مستثمر لأراضي الملاكين إلى ملاكين أو منتفعين، فينطبق عليهم قانون الانتفاع، وبه سيحصلون على مساحات أو بضع هكتارات إلى جانب ما يستثمرون، لأن حصصهم المستثمرة الحالية قليلة فيما لو طبقوا قرار الانتفاع، وحينها كان يجب أن يوزعوا عليهم ما تم الاستيلاء عليه من المالك، أو من مزارع الدولة التي تستثمرها قيادات السلطة ورؤساء القوى الأمنية.

2 - في حالة الانتفاع، فإنَّ ملكية الفلاحين لن تدرج ضمن ملكية المالك، وبالتالي ما تبقى للمالك لن يتجاوز سقف حدود قرار الملكية، أي لن يكون هناك استيلاء على ملكيات الملاكين الكورد؛ وإن تم، فستكون بنسبة قليلة جداً، أي عملياً لما تمكنوا من توطين الغمريين في نصران وغيرها من القرى الكوردية.

وبعملية حسابية بسيطة يتضح التالي: كان فلاحو قرية نصران يستثمرون قرابة 205 هكتاراً من أصل 411 هكتاراً هي مساحة القرية (وهي التي وزعها الوالد على العائلات التي استقرت في القرية في نهاية الأربعينيات، وكما سمعنا من الكبار أن أغلب الفلاحين كانوا يفضلون القليل من الهكتارات حينها لكون الحراثة والحصاد كان يدوياً حيث المحراث والحصاد بالمنجل، وكانت تحتاج إلى جهود كبيرة. وأتذكر بعض الأحاديث في ديوان الوالد في نهاية الستينيَّات، قيلت من بين الأحاديث الفكاهية عن الماضي، كيف أنَّ أحد الفلاحين دخل في نقاش حاد مع جاره في الحقل متهماً إياه بأنه ترك قسماً من دونماته من دون حراثة، متذرعاً بأنها لجاره، وظل كل طرف يلقي التهمة على الآخر، إلى أن قصد بعض رجال القرية والوالد الحقل لتخطيط الحدود بين المتنازعين، وعند العودة، كان أحدهم يقول للأخر: عرفت أنها كانت لك، وكنت تريد أن تضيفها إلى حقلي! وقد اختلف الأمر بشكل جذري مع ظهور آلات الحراثة والزرع والحصاد).

حصل الغمريون على أكثر من 166 هكتاراً، وقد كان من المفروض أن يتبقى قرابة 40 هكتاراً للعائلة، لكن في الواقع العملي، هناك نقص في مساحة ملكية العائلة والفلاحين معاً، والمساحة الضائعة كما ذكرتها سابقاً صرفت بعضها مع الغمريين وبعضها كانت تستثمرها جهة مخفية! ومن ناحية أخرى، فما ترك للمالك في محضر الاستيلاء أقل مما ملكته أي عائلة من الغمريين، وسقف الملكية حينها كان 120 هكتاراً، حسب قانون الإصلاح الزراعي رقم 161 لسنة 1958، وكان من المفروض أن تحصل الزوجة مع الأطفال على عدد من الهكتارات، أي عملياً نصران كانت تتجاوز النسبة المشمولة بالاستيلاء، حتى عندما خفضت سقف الملكية في عام 1980، لكن جرى التلاعب بنص التقرير؛ فأقحمت ملكية الفلاحين في العملية لتمرير ما خطط له.

وقد جاء في محضر الاستيلاء التالي: "بناء على مصلحة الإصلاح الزراعي وبعد أخذ رأي الفلاحين وعملاً بتوجيهات الوزارة في كتابها رقم 450 تاريخ 6/2/1986م بعدم أخذ الأراضي المشغولة بالفلاحين، فقد قررت لجنة الاستيلاء فرع الأرضي ... الحجز عليها وفق ما يلي....". وفي الواقع، كنت مع اللجنة بشكل دائم، وكانوا يصرون أن أكون معهم أثناء تخطيط القرية، فلم يتم أخذ رأي الفلاحين ولا الحديث معهم في إشكالية متعلقة بالاستيلاء، وما نشر كذب ونفاق غايته خلق صراع بين الملاكين والفلاحين، وقد طلب المحافظ، عندما حجز الوالد ليلة في المحافظة، أن يعمل على أخذ أملاكه من الفلاحين، رفض الوالد عرضه والمطروح كلياً!

عندما أكتب عن اللجنة ورئيسها، فإنما أعني السلطة، ومن خلالهم الكشف عن إحدى أبشع جرائم حزب البعث ونظام الأسد، حيث العشرات من القوانين والقرارات التعسفية والعنصرية بحق الشعب الكوردي، فمهمة هذه اللجان كانت تنفيذ المخططات وترسيخ مسيرة البعث والأنظمة السابقة له، وهي كانت الذراع التنفيذية.

البعض من الكتاب العروبيين، وبعد عام 2011، حاول تبرئة حزب البعث وسلطة الأسد من المخططات العنصرية، بل وحتى من الحزام العربي وبناء المستوطنات، وبلغ النفاق حد الكتابة في الويكيبديا، وبوقاحة، تبرئة لنظام البعث من قضية الحزام العربي، وكل من يطلع على الموقع سيجد كيف كتب النص وبأي خبث.

يتبع...

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (1)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (2)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (3)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (4)