أشعر شعوراً جلياً بأن كل أزمات السودان، وعقباته الكبرى التي تمس صميم وحدته، يمكن أن ننعيها، ونهيل عليها التراب، إذا انخرطت كل أطيافه ومجموعاته الإثنية المتعددة في قالب معروف. فمشاكل السودان على اختلاف درجاتها وتعقيداتها، ليست أدق من أن نفهمها، أو أشد غموضاً من أن نظهر عليها، فهي واضحة بينة، ولست أشك أنها، بالرغم من صورها المختلطة، وتفصيلاتها المتصلة، سهلة يسيرة، ليست خاضعة للاستحالة والانتقال من طور إلى طور، وإذا كانت أطر المقال وحدوده تمنعني من أن أسرف في استقصاء التاريخ، فإنَّ الحقيقة التي يجب عليّ قولها غير حافل بالرضا والسخط، أنَّ التاريخ أكبر الظن قد عرضنا نحن في "بلاد النيلين" لكل هذه المحن القاسية، والخطوب المتدافعة.
التاريخ هو الذي جعلنا نتعثر في حياتنا السياسية، وهو الذي جعل طابع حياتنا يتسم بالحدة والعنف، وهو أيضاً الذي جعل مشاكلنا على وجه الخصوص هي التي نحوطها بالرعاية والعناية، فمشاكلنا وحدها هي التي نتخذ في سعينا لها أبعد الطرق، وأشدها التواء، وأفدحها عاقبة، وحتى لا أتحدث حديثاً لا طائل منه، ولا غناء فيه، ينبغي أن أعمد إلى الأدلة التي سأكون شديد الاقتصاد في ذكرها، فالذي أراه، أن "روح الخلاف" السائدة فينا، والتي نحتاج أن نستغرق كل أعمارنا حتى نفهم دقائقها، ونحيط بجوانبها، قد أورثتنا من العلل والأسقام ما لا يخفى على الأذهان؛ هذه "الروح" التي تثب مسرعة نحو الصراع وتهيم به، وتصفق له، قد أخذت تطوف أقطار هذه البلاد تطلب هواها في شدة وإلحاح، حتى أمست كل أمصارنا عنوانها الصراع، والتشرذم، فنحن إذا أردنا توصيف طابع حياتنا الاجتماعية، بما فيه من خير أو شر، في عبارات مقتضبة، لما وسعنا إلا نقول من غير عناء، ولا كد ذهن، أو تشحيذ خاطر، إنَّ مجتمعنا قد أخذ من الصراعات بحظوظ متساوية، وإنَّ حقائق الحياة فيه، والمألوف عنه، أن شبابه وكهوله وشيوخه، قد أظهروا الميل لأن يجتمعوا في زمان ما، وفي مكان ما، بعد أن طافت بهم أيام قاسية، وحلّ بهم هذا الشقاء الذي حلّ بغيرهم من قاطني هذه البلاد الواسعة المترامية الأطراف، الشقاء المضني الذي ليس إلى دفعه من سبيل، ضرب لهم جميعاً موعداً واحداً، وقادهم إلى نتيجة واحدة، وهي ألا تذعن أطيافهم لأحداث الزمان، وأن تمعن في هذه التجارة المنكرة التي تحملهم من بيئة إلى بيئة، ومن ولاية إلى ولاية، وأن يتخاطبوا جميعاً بهذه اللغة التي يطربون لها، ويفهمونها جميعاً، لغة السلاح، تلك اللغة التي تلعب المؤثرات الخارجية دوراً مهماً في انتشارها والحفاظ عليها، ولغة السلاح التي لا يكاد يكون فيها إلا ما هو سيء ردئ، يتهافت عليها السواد الأعظم من نسيجنا الاجتماعي، عدا الشمال والوسط، ولعل العلة في ذلك تطور الإدراك الاجتماعي في هذه المناطق، وعدم مبالاتهم أأنصفهم الناس أم غبنوهم. وحتى نجمل القول، نقول إنَّ لغة السلاح هي اللغة التي يتحرف لها كل إنسان يتطلع أن ينال من نعيم الحياة، ومن طيب العيش ورغده، إذاً السعي إلى الحرب، والحرص عليها، تدل دلالة واضحة قوية، على مزايا هذه "الروح" التي لا تعرف المصانعة والمداهنة والملق، نزعات هذه "الروح" وخصائصها الساذجة المتأصلة فيها، تختصر خبايا هذه "الروح" اختصاراً شديداً، وتبرهن بجلاء أن شعورها "بالغبن والتهميش" هو الذي ينتهي بها دائماً إلى سعيها اللاغب في مضمار البؤس والمعاناة.
التاريخ أزرى بمجتمعنا هذا؛ هذا هو الرأي الذي يجب أن نتماثل، ونتقارب، ونتآلف حوله. التاريخ هو الذي اضطرنا أن نرافق على كره منا، مشاعر متنافرة، لا تتوادد، ولا تجتمع، ولا تملك نفسها في أن توغل في الخصومة بغير حساب، "التاريخ ونظامنا الاجتماعي والسياسي"، هم من جعلوا حظنا من الفقر والجدب، والنزاع، وافياً كافياً، ونحن في الحق نتعجل أن نضع حداً لكل هذا البؤس، وهذه المعاناة، فكل المؤشرات توحي بعد هذه "الكريهة الشنيعة" التي ما زالت مستعرة في العاصمة وفي غرب ووسط البلاد، أن السودان ماض نحو التفرقة، والتفتت، ما لم يقم كينونته على حب عنيف شفيف. ولكي لا تتبعثر جزئيات هذه الديار، يجب أن نطهر دواخلنا من دنس التاريخ، وأن نرعى أصول ومناهج وحدتنا القومية، وأن ندير ملكة التفكير التي لا نكاد نصل إليها، التفكير الذي لا نجهده ونشقيه إلا في حياتنا المالية، وأعمالنا الصناعية، والتجارية على قلتها، علينا أن نفكر ونحسن التفكير، في كيف تمضي مسيرتنا في قوة، وصدق، وإخلاص، ومحبة، وكيف نصفي أفئدتنا مما يخالطها ويعتورها، كيف نترك الخمود، والجمود، ونسير بهذا الوطن المثقل بالجراح في غير أناة نحو الرقي والتطور. ينقصنا الحب أيها السادة، وقد نظفر به إذا صدقنا في عزمنا، نحن فعلاً في حاجة لأن نحيط بناصية الحب وننزلها على حكمنا، وأن نترك هذا التباغض، وهذا الإسراف في الحديث عن الأعراق، فأعراقنا مختلفة متباينة، ولا رابط لها غير خصيصة لوننا، فنحن سود عرباً كنا أم أفارقة، الحديث عن الأعراق يعوقنا عن الحركة، ويجعل وتيرة تقدمنا لا تمضي إلا في بطء وأناة، كما يقول أديب مصر، خريج جامعة السوربون، فمن الخير أن نكف عن هذه الأحاديث العجفاء، وأن نحظى بحياة عقلية محضة، لا أثر فيها لجاهلية ما قبل الإسلام، فصلتنا بتفاصيل تلك الحياة الشائهة المضطربة ما زالت قوية خصبة رغم تباعد القرون.
ما أخشاه أن تتقوس قناتنا من الهرم، إذا قيض الله لنا أن تمضي مسيرتنا في هذه الحياة، قبل أن نظفر بحياة هادئة وادعة، نتفوق فيها في الطب والعلوم، العلوم التي تنشط العقول وتحملها على التفكير، ما زال صوتها خافتاً فاتر، وأنى لصوتها أن يعلو ويرتفع مع صخب هذه الحروب التي كلفتنا من العنت ما نطيق وما لا نطيق، أتمنى بعد أن نطوي صفحة الحرب، أن نناضل في سبيل تحقيق هذه الآمال العريضة، فأنا على الصعيد الشخصي ما أتمناه أن نحوز على المراتب العليا في كل شيء، وأن يكون قطرنا صاحب النشاط الدائب في الآداب والفنون، وفي التعايش السلمي والحكم الرشيد، ولكن لعمري لن يحدث أي شيء من هذا، إذا ما زلنا مستمسكين "بإرث الانجليز"، فمن هنا نعلم، أن خصوماتنا العنيفة المحرجة والممضة، سببها السياسة التي رسمها المحتل قبل أكثر من قرن، وما زلنا نتبعها، ونؤيدها، ونسرف في تأييدها، معظم ما واجهنا من مشقة وعسر، وما جابهناه من جدال ونضال، تسببت فيه "بريطانيا" بمكرها وخبثها، فهي كانت لا تسعى إلا لتحقيق منفعتها الخاصة، لأجل ذلك كانت تئد أي مظهر يعمق من وشائج مكوناتنا الاجتماعية، أو يثري من عواطفنا القومية، بعد أن هال هذه الدولة التي تكره الشعوب على ما لا تريد، انصهار هذه القبائل المختلفة، والسحن المتباينة، وذوبانها في بوتقة "المهدية" ونصرتها لهذه الدعوة التي كلفتها الكثير، لقد أيقنت المملكة التي كانت لا تغيب عنها الشمس، أنها لن تقدر أن تحقق منافعها وآمالها من هذا القطر، إلا إذا أخضعته لنظم وقوانين "التصنيف والتفضيل"، فليس من باب الصدفة المحضة أن يتاح لون من ألوان الحياة الاجتماعية على منطقة جغرافية بعينها، ويحرم هذا اللون على منطقة أخرى، وأن يقصى إقليم وتقيد حركته بالأغلال والكوابل، ويترك غيره شديد الحركة، متصل النشاط. لقد أفضت هذه السياسة المقيتة لانفصال الجنوب، ونخشى أن تحذو دارفور، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق حذواً لا نرضاه أو نقبله، وحتى نريح أنفسنا من اللوم المتصل لسياسة المحتل البغيض، نقول إنه من السهولة بمكان أن ندير ظهرنا لهذه السياسة، وأن نشفى من ويلاتها، وأن نتعافى من عقابليها، إذا سعينا لتحقيق منفعة سياسية خاصة تتمثل في "تدوير الحكم"، فقد طال به المقام في شمال السودان، آن الأوان لأحزابنا الحرة النزيهة، أن تلتقي، وتتحدث، وتختار" الحاكم المدني" الذي يملأ يديه بما ينفع الناس، وأتمنى صادقاً أن يتجافى الشمال عن الاستحواذ على هذا المنصب، وأن تتفق هذه الأحزاب على معاهدات الصلح بين القبائل ونظم السلام، حينها فقط يعود إلى السودان نشاطه، ويعود إليه شبابه، ونحس من انجلترا هذا الألم اللاذع الذي يجعلها منكسرة القلب، كاسفة البال.
التعليقات