عندما وصلت إلى الجزء الثالث من مآلات الواقع العربي بعد ربيعه، وذلك في محاولة لتفكيك هذا الواقع المؤلم واعادة ترتيبه، وجدت لزاماً علي أن أقف عند لحظة تاريخية هامة، وهي أم اللحظات ومفترق الطرق وسبب كل الإعاقات التي أصابت الأمة العربية، وهي تقسيمات سايكس بيكو التي أفرزت لنا أشلاء دول وأشباه حكام وأنصاف شعوب.

شهدت الدول العربية في العشرين سنة الماضية حروباً أهلية وصراعات مميتة وتدميراً هائلاً لبنيتها التحتية، إضافة إلى صراع على السلطة، وتهجير للبشر، وتدمير للحجر، وتغيير للبنية الاجتماعية، ولي في مدن جميلة مثل الموصل والرقة ودير الزور وحلب وطرابلس الغرب والحديدة في اليمن ومدن جنوب لبنان وأم درمان في السودان وغيرها من المدن العربية التي شوهتها القذائف والصواريخ والطائرات مثال حي على نزعة القتل والتدمير في المجتمعات والدول العربية، مما أدى إلى حالة من عدم الفهم لما يحصل لهذه الدول من مصائر وويلات مختلفة، ولفهم السبب الحقيقي لما يجري اليوم في الوطن العربي من حروب وكوارث، علينا أن نعود إلى التاريخ.

عندما قسَّم الغرب الوطن العربي بعد انتصاره على الامبرطورية العثمانية، لم يراع العنصر البشري في التقسيمات الجديدة بعد سايكس بيكو، حيث كانت ترسم حدود التقسيم للدول العربية حسب مصالح الأوروبيين المستعمرين، لا وفق أعراق الشعوب العربية وديانتها وأصولها وثقافاتها المختلفة، مما أدى إلى نشوب تشوهات هيكلية واجتماعية في البنى المكونة للدول العربية الحديثة.

لقد دمج المستعمر القبائل العربية مع الكرد والزنج والأمازيغ والمسيحيين والدروز... إلى آخره من مكونات الوطن العربي، وذلك عبر خطوط دولية أصبحت فيما بعد حدوداً فاصلة بين كل دولة وأخرى، هذه الحدود المصطنعة عزلت الأخ عن أخيه، وقسمت القبيلة إلى نصفين كل نصف في دولة، ومزقت الوحدة الجغرافية المتماسكة إلى شطرين أو ثلاثة، فأصبحت قبيلة عنزة جزء في المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج، وجزء في الأردن، وجزء في بادية سوريا والمتبقي في بادية العراق، ومنح كل فرد من أفراد هذه القبيلة العربية العريقة جواز سفر للدولة الحديثة التي أصبح يعيش في كنفها، ويحارب معها ويعادي من عاداها ويصالح من صالحها، ولنا في احتلال العراق للكويت مثالاً على ذلك، حيث عنزة جنود في الجيش العراقي وجنود في الجيش الكويتي، ويتقاتلان كل للدفاع عن وطنه، وقبيلة شمر وعتيبة والسردية وبني صخر والسرحان والحويطات وظفير والنعيم وغيرها من القبائل التي تمزقت في مشرق الوطن العربي بين دول حديثة عدة.

إنَّ أهم ما تمخض عنه هذا التقسيم الذي لم يراع طبيعة السكان وأصولهم وطبيعة حياتهم التي عاشوها منذ فجر التاريخ، هو تمزيق القبائل والعشائر وبث النعرات والأحقاد بين أفراد القبيلة الواحدة المنتشرة في تلك الدول، فمنهم من أصبح إسلامياً ومنهم من صار بعثياً ومنهم من اعتنق الاشتراكية على سبيل المثال، فتشوهت حياة العرب الأقحاح وسهُل تفتيتهم وانقيادهم نحو المستعمر الجديد، علماً بأنَّ الدولة العثمانية لم تستطع عبر أربعمئة عام من عمر الخلافة أن تسيطر على مناطق القبائل العربية في الصحراء، وبقيت تجاملهم وتحاول كسب ودهم وتتقي شرهم لأنها عجزت عن ترويضهم في صحاريهم، وبقيت سيطرتها على مناطق القرويين الفلاحين في المناطق الزراعية في أطراف بلاد الشام وفلسطين وبلاد ما بين النهرين.

إقرأ أيضاً: مآلات الواقع العربي بعد ربيعه

إنَّ ما زاد الطين بلة حين وضع المستعمر الجديد المحكوم تاريخياً بمثابة الحاكم، ووضع الحاكم بمكان المحكوم، فأصبحت القبائل العربية المحاربة والحاكمة لأجزاء واسعة من الوطن العربي محكومة من قبل من كانوا مستعبدين في السابق، فكان سكان القرى وبعض المدن يعملون لصالح العثمانيين، والفلاحون يعملون في حقولهم لإطعام الدولة العثمانية ودفع الضرائب الباهظة عليهم، وكان يشارك العثمانيين في أخذ الضرائب منهم بعض القبائل التي تفرض "الخوة" أو "الخاوة" على هؤلاء الفلاحين البسطاء (وهي ضريبة يدفعها الفلاح إلى شيوخ القبائل سنوياً مقابل حمايتهم له من الغزو والسلب والنهب)، والذين من خلال هذه الضرائب يأمنون شرّ الدولة العثمانية وغضب القبائل العربية، وعندما جاء المستعمر الإنجليزي والفرنسي استعان بكثير من القرويين للعمل لصالحه، وعاد الكرة مرة بأن وضع جزءاً من هؤلاء في سدة الحكم إمعاناً منه بتدمير الوطن العربي، بأن وضع من كان يعمل لصالح المستعمر القديم والمستعمر الجديد في مواقع الرئاسة في الدول العربية، واستبعد أبناء القبائل لأنهم كانوا يشكلون خطراً عليه، إلا فئة قليلة من أبناء القبائل تمردت وفرضت قوتها على الأرض، مما ادى بالمستعمر الجديد إلى أن يعترف لتلك القبائل بسيادتها على مناطقها، مثال العربية السعودية ودول الخليج، وحاول أن يسترضي أبناء الشريف الحسين بممالك صغيرة بكل من سوريا والعراق والأردن، إلا أنَّ الحكام الجدد عادوا فاستعانوا بالقرويين ضد أبناء القبائل، وهمشت القبائل العربية في أغلب الدول العربية، وظهر جيل جديد من مشغلي الدول وشاغلي المناصب العليا ممن كانوا بنظر القبائل أقل شأناً منهم، مما أدى إلى عدم إيمان قاطني تلك الدول من أبناء القبائل بجدوى دولهم وجدوى بقائهم فيها.

بعد مئة سنة على نشوء النظام العربي الجديد، وعلى تقسيم الدول العربية إلى دويلات صغيرة تتبع للمستعمر الجديد بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى، استوعب كثير من الشعوب العربية والمستعربة في الوطن العربي أن "خلاطة المولينكس" لم تستطع أن تخلق هوية جامعة لهذه الشعوب في دولها الجديدة، فتفلّت الأكراد وعادوا إلى قوميتهم في العراق وشرق سوريا، وانتهز الشيعة من غير العرب في العراق الفرصة لينقضوا على الحكم في الدولة الجديدة ما بعد صدام حسين لإعادة المجد الفارسي للامبرطورية الساسانية لبلاد ما بين النهرين، وبرز الأمازيغ يطالبون بلغتهم الأصلية في المغرب العربي والسود في ليبيا، وتمتع المسيحيون والفلاحون في بلاد الشام (الذين ينظر إليهم كبقايا شعوب يونانية ورومانية وفرنجية وصليبية وتركية استعربت عبر العصور) بأخذ حصة الأسد في بعض دوائر الحكم، وذلك تعويضاً عما عانوه من اضطهاد تاريخي من قبل العرب الأقحاح منذ الفتح العربي لبلاد الشام، وأخذ عداؤهم لعرب القبائل يظهر واضحاً، وكذلك ظهرت النزعة الأفريقية الزنجية في السودان التي أدت إلى اقتطاع جنوب السودان كدولة مستقلة للزنوج رافضي التعريب، والآن يشهد السودان حركة تصحيح جديدة تقودها القبائل العربية في دارفور لتصحيح مسار الدولة، بغض النظر إن كان الدعم السريع يمثل قبائل الجنجويد العربية أم لا، وكان العثمانيون قد نثروا في أجزاء واسعة من الوطن العربي الكثير من الشركس والشيشان والأرمن والتركمان والكثير من شعوب القوقاز وبعض غجر الترك والهند والبلغار، الذين بدورهم أخذوا يطالبون اليوم بتدريس لغاتهم الأصلية وإحياء تراثهم في بعض الدول العربية كالأردن وسوريا وفلسطين ولبنان والعراق.

إقرأ أيضاً: مآلات الواقع العربي بعد ربيعه: تزوير التاريخ

إنَّ ما حدث في الدول العربية في العقد الأخير هو بمثابة حركة تصحيح للتاريخ كان لا بد منها، مع ما يحمله هذا التصحيح من ويلات وآلام لشعوب المناطق المنكوبة والتي تعاني الأمرين، وإن ما ينتظر الوطن العربي في المستقبل القريب والقريب جداً هو أسوأ مما شهدناه في حركة الربيع العربي، وذلك لأنَّ الشعوب تتعلم من بعضها وتدرك حركة التاريخ، وهي كالجسد يصحح نفسه ويقاوم الطفيليات التي تنمو على سطحه، مما يبشر بولادة وعي هائل لدى العرب الأقحاح في الوطن العربي، الذين كان لهم السبق في فتح هذه التخوم المترامية والأراضي الشاسعة من مطلع الشمس إلى مغربها، وفي نشر العروبة والإسلام ما بين الأطلسي والخليج العربي، وهذه القبائل أخذت تشعر بأنها قد غدرت في مستقبلها ولم تستطع أن تصنع لها مكاناً مرموقاً تحت الشمس، بل لقد سرقت فتوحاتها وجهادها ونشرها للعروبة والإسلام في كل أصقاع الدنيا.

والله من وراء القصد.