الحروب الفاشلة في العراق وأفغانستان وما عملته القوى الغربية بدعوى "الربيع العربي"، والذي لم يحقق شيئاً سوى زيادة العداء لواشنطن، وازدياد الأصوات الداعية لضرورة إخراج كل القوات الأجنبية، وتحديداً الأميركية، من الشرق الأوسط، دفع نحو تبلور توافق داخل الدوائر الرسمية في واشنطن بشقيها الديمقراطي والجمهوري باتجاه إخراج القوات الأميركية والحد التدريجي من الوجود العسكري واستبداله بالاستثمار السياسي والاقتصادي ليكون بديلاً لنفوذها فيها.

المحور الآخر كالصين وروسيا وكوريا الشمالية يدفع باتجاه تطوير علاقاته التجارية والاقتصادية وفق مبدأ استراتيجي يعتمد على الطلب المتزايد على استيراد الطاقة من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي أتاح لهذه البلدان النفوذ الواسع فيه، كما أن تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة أتاح لهذه الدول العودة إلى الشرق الأوسط بعد غياب، خصوصاً روسيا، التي غابت عن المشهد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي بداية التسعينيَّات من القرن الماضي، ما أتاح لواشنطن الدخول بعد أحداث عام 1991 وحرب الكويت، وما تلاها من أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وغزو العراق وأفغانستان، والذي سبب استنزافاً هائلاً لقدرات الولايات المتحدة العسكرية والسياسية، وأثر سلبياً على صورتها في عموم العالم العربي والإسلامي.

توقَفَ التراجع العسكري الأميركي بعد الحرب الروسية - الأوكرانية التي انطلقت عام 2022، فأعادت واشنطن فكرة تواجدها بقوة، بفعل احتياجها إلى الحلفاء في المنطقة للسيطرة على الطاقة وأسعارها، أو لحشد الأصوات والتأييد الدولي لمواقفها ومواقف القوى الغربية لمواجهة روسيا والصين، أو لمنع تمدد نفوذها وقطع العلاقة فيما بينها وبين إيران والخليج.

إنَّ الكيفية التي سيتطور فيها الصراع في غزة ستخلف آثاراً سلبية على الاقتصاد العالمي، والذي يعاني فعلاً من الصدمات، إذ أنَّ سلسلة من الأحداث الكارثية قد تمتد إلى الخليج نفسه، والتي يمكنها أن تؤدي إلى الصراع بين القوى العظمى، بالإضافة إلى أنَّ الأنظمة في المنطقة يمكن أن تتزعزع على أثر الغضب الشعبي بسبب فشلها في إدارة هذا الصراع ومحاولة تخفيف حدته أو مساعدة غزة المحاصرة.

الحرب المفروضة على غزة 2023 وكلفتها الإنسانية والاقتصادية الباهظة، بالإضافة إلى تداعياتها السياسية والأمنية على المنطقة، إضافة إلى القراءة الواضحة لمجريات الأحداث في فلسطين وعموم المنطقة، فضلاً عن أحداث البحر الأحمر، اجتمعت كلها لتعيد واشنطن إلى خانة التدخل المباشر في المنطقة مرة أخرى، وإعادة هيمنتها وتوظيف كل قدراتها ومواردها من أجل دعم الكيان الإسرائيلي، ومحاولة تقويض أيّ تحرك لمنافسيها في المنطقة، وإيجاد أرضية مناسبة لاستكمال الدمج الإقليمي لتل أبيب بالتطبيع بينها وبين دول المنطقة.