أهكذا يتحوّل حال مدينة الرَّقة وبقية المدن السورية إلى كتلة من الحجارة وتحت مرأى العالم المتخاذل؟! فالرَّقَّة وأخواتها ستعود يوماً إلى حاضر متجدّد بفضل شبابها وأهلها المخلصين.

الوفاء لأهل الرَّقّة وبقية أهلنا الذين تجرّعوا مرارة وقسوة ما حدث في سورية طوال السنوات الماضية من قهر وحرمان، كما حدث مع بقية المدن والقرى السورية من تهجير ودمار وقتل وتشريد وتغييب وملاحقات بائسة لأبنائهم، وليخسأ الأسد، وبوتين وملالي إيران وأعوانهم الطغاة الخونة الذين أحرقوا البلد، وأحالوا كل ما هو جميل فيه إلى خراب ودمار!

وبعد كل ما حدث ما هو مصير الشعب السوري البسيط المتسامح الذي قتل وشرّد وأصبح بلا مأوى ينتظر حتفه!

هذا ما أراده القتلة! ولكن الشعب السوري بعزيمته وإصراره لن يركع ولن يسكت عمّا أصابه من ذلّ وهَوان.

فقد تحوّلت الرَّقة من مدينة زراعية بامتياز، إلى مسرح لعمليات "داعش" والخراب والدمار الذي جلبه إلى أهلها، وظلت إلى فترة قريبة تئِن من الألم، وتعيش الفاقة بكل مؤسياتها، بعد أن عَرفت بــ"ولاية الرَّقة"، والامتيازات الكثيرة التي لحقت بها، وأظهرتها على أنّها أنموذج آخر، ومدلّل، بالنسبة لأخواتها البقية من المدن السورية التي تعيش الحالة ذاتها!

وما زالت ذيول "داعش" تحكم بقبضتها على عقول الشباب الصغار... وهكذا صار حال مجتمعنا، بالرغم من خلاصه من "داعش"، وما فعلته بأهل الرّقة، عاصمة دولة الخلافة، من جراح وآلام مثخنة. فالقصاص، وللأسف، لحق بالكثير من الأبرياء في ظل حكمه، وبالرغم من أنَّ المدينة وأهلها تخلّصوا من براثنهم وخبثهم وسيوفهم الباترة التي لم ترحم أحداً، فضلاً عن القتل والخراب والدمار الذي شهدته الرّقة والمدن السورية، وحتى العراقية، والأذى الذي أحاط بهم، ما زال هناك، وللأسف، البعض يشجّع على الاستمرارية بالنهج نفسه. هؤلاء الطغاة الذين لم ننس أنهم غرزوا خنجراً مسموماً في قلوب أهلها، فضلاً عما نهبوا وسرقوا وخربوا واغتصبوا وسبوا النساء... في صور بغيضة، وها هم اليوم يعيدون الكرّة، وما زال قسم كبير منهم يعتنق أفكارهم وما ذهبوا إليه، في قرى مدينة الرّقة القريبة من الجهات التي كان لها دور كبير في طرد داعش والقضاء عليه.

فلماذا ما زلنا نهتم بإرث لم يخلص منه أهل الرّقة وإلى اليوم، بالرغم من تحريرها من دولة العراق والشام، داعش، وما زال النقاب الذي كانت ترتديه المرأة يُستعمل في أثناء فرض حكمهم على الرّقة، والسيطرة على أمثال هؤلاء السذّج، ويتباهون به ويتفاخرون، ناهيك بإطالة اللحى بذرائع مختلفة.

ونحن لسنا ضد حفظ القرآن والالتزام بسنن الدين الإسلامي الحنيف، ولكن بتبسيط الأحوال للناس، وليس بالتشدد في هذا الاتجاه.

ما رأيناه هو تشويه للدين الإسلامي، وهو بريء منه براءة الذئب من دم يوسف.

متى نتعلم، ونبتعد عن أمثال هذه الصور المؤذية التي تثير ما تثير في نفوس الناس، التي يبدو أنها ستظل مغروسة فيهم… ولن يتعلموا من أخطاء الماضي؟

متى نصحو من أفكار داعش الشيطانية وخزعبلاته التي أعادت شعوبنا إلى عصور القحط؟

إقرأ أيضاً: عن عوز المواطن وسحقه!

فالرّقة، ظلت مجرد غنيمة استسهلها الغازون من كل حدب وصوب، ومورد رزق غير عادي لكل من حاولَ التحايلَ على أهلِها، واغتصب منتوجاتهم ونهب خيراتهم، وأبقاهم جياعاً مهمّشين أذلاّء يعيشون على الكفاف نتيجة الفقر المدقع الذي أصابهم في الصميم، ما شكّل قناة مفجعة وميؤوس منها في ظل الظروف الحالية التي عايشوها على مدى السنوات الماضية التي تلت الأزمة الخانقة التي عاشتها الأسرة السورية بصورة عامة.

الكثير من الصور الخرافية تسيّدت المشهد المؤلم بتحويل الرّقة إلى مدينة أشباح، ولحقها الدمار شبه الكامل، ما يعني مسحها عن بكرة أبيها من على الخارطة السورية بذريعة محاربة داعش، وهذا ما أنهك كاهل أهلها، وشرّدهم وأبعدهم عن منازلهم ملتحفين السماء، وحوّلهم إلى مجرد أناس مسلوبي الإرادة، وهم في الواقع، ليس لهم "لا بالعير ولا بالنفير"، وموردهم الأساس ما تنتجه الأرض التي تعود إليهم ببعض الأمل.

حياتهم هذه انغمست فيها الكثير من المنغصّات، وتجسّد ذلك وبوضوح بدخول اللصوص والمرتزقة والقتلة، ومن كل أصناف البشر، وأتوا على كل ما يمكن أن يسدّ رمق أبنائها الذين هم بالكاد قادرون على تأمين لقمة سائغة تخفّف عنهم وطأة الحاجة الذليلة!

الرقّة، وبكل هدوئها، ونبضات قلوب أهلها وطيبتهم وعشرتهم وأمانيهم وتوادّهم، ظلّوا كما هم، لم تغيّر الحياة بهم شيئاً، بالرغم من الأحداث التي حملت الكثير من الهموم والأوجاع والآلام والفراق.

هذه مدينة الرَّقة. مدينة الخليفة العبّاسي هارون الرشيد. المدينة التي أنجبت الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي، كما أنجبت المؤرخ والباحث مصطفى الحسّون، والكثير من الأدباء والوجهاء، وغيرهم ممن حفل بهم تاريخ مدينة الرَّقة المعاصر.

إقرأ أيضاً: في سوريا... ومعاناة الحصول على جواز السفر!

إنَّ ابن الرّقة، لم يكن في يوم ما ميّالاً للحقد، أو الاقتتال، بل كان أكثر ما يَمِيلُ إلى التسامح، والبعد عن عقدة المظهرية، والبساطة في لباسه، وبالرغم من ذلك تحمّل، وعلى مضض، الواقع المتردي الذي يعيشه، نتيجة غياب الخدمات الأساسية، التي يمكن أن تدفع به نحو حياة طالما حلم بها، ما يعني أن أهلها صاروا أسرى الحاجة، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، خصوصاً بعد أن حلَّ الدمار بالمدينة، وانتزع فتيل الأمان الذي كانوا يعيشونه، ما يعني أنهم صاروا يبحثون عن مأوى يحفظ، أقلّها، ماء وجههم.

وبعد كل ما حدث ويحدث اليوم، نقولها بالفم الملآن:

هل انتصرت الرَّقّة وبقية المدن السورية، التي تعرضت للدمار والخراب والنهب على الخونة المجرمين الذين باعوا سورية للطغاة؟ وهل ستقضي الأيام المقبلة على أفكار داعش الشيطانية، والتخلص من عصاباتها الجهلة الذين أحالوا الرّقة ـ المدينة المسالمة ـ إلى أكوام من الحجارة؟!