في الجو المشحون بالعنصرية وتطبيقاتها على أرض الواقع كان استحقاق الملاك من الأرض أقل من حصة أي غمري، ناهيكم عن الفلاح في نصران الذي لم يعتبر منتفعاً أصلاً بموجب قرار الاستيلاء، وكانت مخرجاته وباءً على السكان الكورد في قراهم. وفي الجانب الآخر كان الغمريون ينعمون بخصوبة هذه الأراضي المدرة عليهم بنعيم الحياة وبحبوحتها، وفي المقابل تقتل الحسرة والقهر والظلم الجائر الإنسان الكوردي الذي يرى بأم عينيه كيف أرضه المسلوبة تدر على هؤلاء المستقدمين دعة العيش ورخائها، وهو في واقع الأمر يكابد ضنك المعيشة ومشقّاتها، محتاراً من أين وكيف يؤمن قوته وقوت عياله اليومي.

لقد شهد الشريط الحدودي بين شمال كوردستان وجنوب غربها على امتداد 300 كيلومتر وعمق عشر كيلومترات مستوطنات للغمريين تبدو عليها مظاهر النعمة ورغد العيش؛ حيث المحلات التجارية والفيلات الفارهة والأبنية الأنيقة، كلها تنبئ بمظاهر الثراء والغنى. وبالمقابل اُسْتُفْرِغَ هذا الشريط من أصحابها الكورد ليُمَلّكُوْهُم أراضٍ شبه صحراوية في جنوب الرد، التي حظها من الأمطار غير كافية لنمو أية زرع بوسعه دفع الفقر المحتم عنهم.

هكذا تحولت حياة الفرد الكوردي الذي كان بالأمس صاحب أرضه لا يعاني من ضنك الحياة ليصبح فقيراً معدماً لا يملك من أسباب البقاء على قيد الحياة كريماً أي شيء سوى الهجرة المفروضة عليه بسبب الحرمان عنوة من أرضه. كمثال فقط، سكان قرية تل شعير، أولئك الذين حالفهم الحظ واعْتُبِرُوا منتفعين مَلَّكُوْهُم أراضٍ في جنوب الرد، تلك المنطقة الشحيحة بالأمطار، ولم يكن من طبيعتها صونهم من العوز، فظل الفقر والعوز رفيقهم الملازم، وباتوا هم أيضاً يبحثون عن مصادر لتأمين أنفسهم وأطفالهم من الجوع، فقس على ذلك بقية القرى الكوردية، وبالتالي هم كلهم منتفعين غير منتفعين مرغمين على الهجرة المفتعلة. وما حصل يومئذٍ يعيدنا إلى بنود محمد طلب هلال السيء الصيت كوردياً التي من ضمنها حرمان الكورد من أرضه.

أدرك الكورد هول المصيبة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، عندما ضاقت بهم سبل العيش، فراجعوا بذاكرتهم إلى مشروع إفراغ الشريط الحدودي الوارد ذكره آنفاً، والذي على إثره تم إنشاء مزارع سميت بمزارع الدولة؛ وذلك قبل جلب الغمريين بنحو عقد من الزمن، والمشروع لم يكن سوى التغيير الديموغرافي لمناطقهم.

وصار جلياً أنَّ السلطة ماضية في حرمان الفلاح الكوردي من الأرض، ليس من كانوا سكنة الحدود مع شمال كوردستان فحسب؛ وإنما كل الكورد أينما كانوا في مناطقهم. والعملية بكليتها كان القصد منها التهجير الداخلي وإخلاء الأرض منهم لتسير بشكل طبيعي؛ حتى لا يحدث احتجاج دولي يستنكر اقتلاع شعب من أرضه، فألجأته السلطة بهذا الشكل مضطراً للبحث عن مصدر رزق يسد به رمقه خارج منطقته!

أمر آخر خفي على الكثيرين منا: بعد تنفيذ الاستيلاء،م كان سيتبعه استيلاء آخر أسوأ منه، فقد كان هناك مخطط جديد لإنقاص سقف الملكية في الجزيرة حصراً من 85 إلى 60 هكتار بعل وأقل في حالة السقي، تم رسمه قبل عام 2011، لكن الحوادث قضت عليه؛ الاستيلاء كان سيطال استثمارات الفلاحين، ومن بينهم وبالتأكيد ملكية فلاحي قرية نصران. وأصبح واضحاً للقاصي والداني أنَّ سلطة دمشق ماضية في سلب الكورد ما تبقى من أراضيهم بموجب قوانين الاستيلاء الصادرة واحداً بعد الأخر، أسوأها مرسوم (49) المشؤوم.

أمَّا التعويض الحاصل لبعض المسلوبة أراضيهم بأراضٍ رديئة الإنتاج آنذاك، كان القصد من ورائها اقتلاعهم من أراضيهم الخصبة، لينزحوا منها وإلى الأبد. والعملية بكليتها كانت نفياً وتهجيراً داخلياً لأبناء تلك القرى إلى منطقة من طبيعتها الجفاف وندرة الأمطار، ليكون لاحقاً سبباً في هجرتهم إما إلى الداخل السوري أو إلى خارجها، وجليّ أنه كان مشروع محكم البنيان والأركان لتدمير الوضع المعيشي والاقتصادي العام، المؤدي إلى الهجرة المبيّتة مسبقاً كما مر معنا.

ولم يكن هذا المشروع وحده هو الوسيلة الفريدة لمحاربة الكورد؛ في حين حرمانهم من ممارسة الأعمال الفردية كالحصول على تراخيص فتح المحلات التجارية الصغيرة أو إنشاء بعض ورشات للأعمال البسيطة، وحتى البسطات المتحركة ذات العجلات كانت حيازة تراخيصها من الأمور الصعبة جداً عليهم، عدا طلب السماح لهم ببناء مساكن لسكناهم في المدن وغيرها، وحتى ترميم منازلهم المحتاجة إلى ذلك كانت السلطة تماطل بها إلى أمد طويل، وفي بعض الأحيان كان يأتي الرد سلبياً!

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (1)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (2)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (3)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (4)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (5)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (6)

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (7)