مع أنه من المبكر الوصول إلى مثل هذا السؤال، إلا أنني أحاول استباق الأحداث لأضع النقاط على الحروف لمن شاء أن يتابع البحث والتحليل. سؤالي ببساطة: هل كانت قيادة كتائب القسام مجرد مجموعة من المغامرين المعزولين؟ وأقصد هنا يحيى السنوار الذي قضى معظم عمره أسيراً أو ملاحقاً من الاحتلال، وكذلك محمد الضيف ومروان عيسى، وبالتالي فهم ليسوا مؤهلين لاتخاذ قرار بحجم قرار السابع من تشرين الأول (أكتوبر)؟ وكذلك، هل كانت قيادة سرايا القدس على نفس الدرجة من الغباء لتلتحق بكتائب القسام بدون تفكير؟ ومعها كتائب شهداء الأقصى، وأبو علي مصطفى، وعمر القاسم، وجهاد جبريل، والمجاهدين، والأنصار، والمقاومة الشعبية، بمعنى كل قوى المقاومة في غزة؟ أم أن الأمر خلاف ذلك، وأن هؤلاء القادة كانوا بمستوى الحدث وأكثر إدراكاً من أيّ جهة على وجه الأرض بأن بإمكانهم أن ينتقلوا بالحال من العدم والاقتراب من الزوال إلى العتبة الأولى للنصر، وأنهم كانوا يدركون بالضبط ما الذي سيحدث بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وما هي التداعيات التي ستنتج عنه، وهل بالإمكان مواجهتها أم لا؟
سأحاول أن أضع المقدمات التي بررت لتلك القيادة ما فعلت، فقد وصلت القضية الفلسطينية إلى أخطر مفترق طرق في تاريخها، وصار حتى الحديث عنها يتلاشى تدريجياً، وبات الاعتقاد لدى الولايات المتحدة ودولة الاحتلال أنه بالإمكان القفز المطلق عن حقوق الشعب الفلسطيني، وترتيب الأوراق في الشرق الأوسط دون الفلسطينيين، تمهيداً للالتفات إلى الشرقين: شرق أوروبا وشرق روسيا، بعد أن كادت تعزل روسيا رويداً رويداً وتجعل التأييد لها محدوداً، وهو لا يتعدى التأييد اللفظي فيما عدا إيران ومحور المقاومة، واعتقدت أنها بذلك ستجعل من الممكن إلحاق الهزيمة بهذا الحلف وترك الصين وحيدة بعد أن تكون قد هزمتها بإطلاق طريق التوابل وطريق التمور بديلاً لطريق الحرير.
إلى جانب التغييب شبه التام للقضية الوطنية الفلسطينية، كان التغييب الأخطر مخصصاً لقطاع غزة، والذي جرى احتسابه كجزء من محور المقاومة، وتم التعاطي معه على هذه القاعدة. بمعنى آخر، كان من الواضح أن الأعداء يخططون للانقضاض عليه من الداخل، وهو ما كانوا يخططون له لكل قوى المحور. فعلوا ذلك في اليمن، وسوريا، ولبنان، وكذلك في العراق وإيران، وباتوا يراهنون على طوابيرهم في داخل بلدان المحور لتقوم بدورهم نيابة عنهم، وبهذا تصبح روسيا وحيدة بالمطلق، وتتمكن قوى الناتو من إلحاق الهزيمة بها لتبقى الصين وحيدة لا حول لها ولا قوة، فإما أن تقبل مكاناً ملحقاً في الإمبراطورية الأميركية أو يتم التخلص منها بتجييش كل العالم ضدها، ولن يكون لكوريا الشمالية المعزولة أصلاً أو التي تعزل نفسها أي دور.
كان لا بد إذن من عمل ما بمستوى المؤامرة، ولم يكن ممكناً لعمل محسوب النتائج أن يجدي، ولذا كان لا بد للفعل أن يأتي من خارج الصندوق أو خارج حسابات العقل والمنطق، وإلا لما كان بإمكان أحد أن يفعل شيئاً على قاعدة موازين القوى، وعلى قاعدة الانشغال التام للعالم بعيداً عن فلسطين وقضيتها. بل وبات القول بانعدام وجود الشعب الفلسطيني علناً وعلى رؤوس الأشهاد، وأصبحت قوى المحور محض قوى إرهابية بكل قواها، بما فيها كل قوى المقاومة الفلسطينية في غزة، وفي المقدمة منها كتائب القسام وسرايا القدس.
دولة الاحتلال، "القاتل الأميركي المأجور في فلسطين"، كانت تبدو بأبهى صورها والولايات المتحدة تصنع حلفاً عالمياً وتعزل روسيا، وتتطاول على تذكير الصين بأنها انتزعت منها تايوان وتتحداها علناً، وتفتح بوابات الفيليبين، وتتبنى علناً ما اسمته بمظلمة المسلمين هناك، وتحرض قوى في أفغانستان على الصين، وتستميل الهند إلى حد إحياء مشروعها وتشارك به الإمارات والعرب، وتصنع حلفاً كونياً تكون أطرافه الهند، ودولة الاحتلال، والإمارات، وتفتح بوابات لاتفاقيات تبدو روحانية سلمية وتحمل اسم "أبو الأنبياء إبراهيم"، وهو ما يعني توحيد الديانات السماوية الثلاث معاً وبرعاية الولايات المتحدة.
فقط مغامر أو عبقري حد إدراك ما لا يمكن لأحد إدراكه، وكلا الحالتين تلتقيان في كثير من الأحيان، فالعلماء الذين اكتشفوا أخطر الاكتشافات كانوا أعظم المغامرين، ولولا مغامراتهم لما تم الوصول إلى إدراك عبقريتهم، وهو ما كان من قيادة القسام، وهو ما ينبغي أن يكون من إدراك مغامرة عباس بن فرناس، والذي سيأتي على ذكر العلاقة بين قادة القسام وعباس بن فرناس في النهاية لأهمية ذلك غداً.
إذن ابتدأ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) في الحال الذي ذكرناه، وقد وقف العالم بأسره مشدوهاً أمام تلك اللحظة، ولم يصدق أحد، بل أن هناك من لم يستطيع التصديق حتى اللحظة، وطالت الصدمة كل الأرض، فالرئيس الأميركي جو بايدن تطوع ليصبح صهيونياً متطرفاً، وأعلن وزير خارجيته أنتوني بلينكن عن يهوديته، وتذكر ريشي سوناك أن رئاسته لوزراء بريطانيا تملي عليه حق الوفاء لأسلافه، وأن إمبراطورتيه التي ورثها رغم قدومه من مستعمراتها تلزمه بالحفاظ على ثوبها العتيق، فقد حاربت بريطانيا العالم بجنود مستعمراتها وهي لا زالت تفعل حتى بعد أن جعلت أحد أبناء مستعمراتها سيدها بنفسها.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خشي أن يطل اليمين برأسه ضده، فأصبح أكثرهم يمينية فيما يخص دولة الاحتلال، وكذا فعل المستشار الألماني أولاف شولتس الذي جاءته الفرصة للتنصل من نازيته وإلصاقها بحماس والفلسطينيين، وفعل كثيرون ذلك. البعض خشي فعلاً أن تنهار دولة الاحتلال ويعود اليهود ليشكلوا كابوساً لهم، والبعض الآخر خشي أن تنتصر حماس فتصل الانهيارات إلى بيته وتمتد حماس خارج حدود فلسطين أو تمتد أذرعها. البعض رأى أن الذي انتصر هي إيران، وهذا يعني حلف إيران - روسيا، وهو ما فتح شهية الصين التي حرصت على صمتها بانتظار غد لا أدري إن كان سيأتي لها أم يذهب لغيرها.
الجميع في سلة الولايات المتحدة اعتقدوا أنَّ الأمر سيمضي سريعاً، وأن حركات صغيرة مثل حماس والجهاد يمكن الإجهاز عليها بسرعة وسهولة وبلا أي جهد يذكر، فشيطنوا حماس والجهاد وألصقوا بهما تهم الإرهاب والاغتصاب وقتل الأطفال، واستمرت التهمة تتدحرج لكن بالعكس ككتلة ثلج تتدحرج على أرض دافئة إلى أن ذابت كلياً، واكتشف العالم أن حماس هي القوة الأكثر أخلاقية وليست دولة القاتل المأجور.
حتى اللحظة، تسعة شهور بالتمام والكمال مرت على السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وقد اغتسلت حماس والجهاد والمقاومة من كل التهم البذيئة، ظهرت حقيقة أخلاقها في معركة لا زالت تتواصل، مقتلة لم يسبق لها مثيل في التاريخ من قبل الولايات المتحدة وعصابتها وقاتلهم المأجور ضد الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة، بأخلاق لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وفضح الجميع بصورة الأسير لدى المقاومة والأسير لدى دولة الاحتلال.
أهي الصدفة أن يكون لرقم 7 كل هذه المعاني؟ فالبداية كانت يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لكن المواصلة صنعت من السبعة الواحدة سبعات، وقد تكون النهايات كذلك.
السبعة الأولى: الجبهات العسكرية
الولايات المتحدة وقاتلها المأجور فتحا على أنفسهما جبهات سبع موحدة بما لا يمكن كسر وحدتها، وهي اليمن ولبنان وسوريا والعراق وثلاث جبهات فلسطينية لكل منها خاصيتها في غزة والضفة والأراضي المحتلة عام 1948. صار لزامًا على القاتل وسيده أن يدير الحرب في الجبهات السبع ويتعاطى مع الجبهات السبع وهو يدرك أن القاتل المأجور وحده لا يمكنه فعل ذلك، وأن حلفاء المنطقة لا يمكنهم كشف وجوههم الحقيقية، وأن السيد لا يرغب بأن يقاتل بنفسه.
السبعة الثانية: الجبهات السياسية
تتألف من محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية وأزمة قرب الانتخابات الأميركية وانقسام الموقف الأوروبي وأزمة التجارة الدولية في البحر الأحمر وظهور عديد التحالفات الدولية وتحرك روسيا السياسي خارج حدودها ودفعها بكوريا الشمالية للخروج من عزلتها وشعور الصين بأنها يجب أن تصحو من إغفاءتها. وهو ما يعني أن الشرق الأوسط، الذي أريد له أن يكون ملاذ الولايات المتحدة لقيادة حرب لها بدونها في الشرقين، جاء برياح عكسية وبدل أن تقود حرباً بالآخرين ضد الآخرين، قاد هؤلاء الآخرون الحرب عليها وعلى مشروعها وصمدوا وحققوا نجاحات.
السبعة الثالثة: الأزمات الداخلية لدولة القاتل المأجور
هذه الأزمات لم يعد أحد يذكرها، وهي قضية الحريديم وخدمة الجيش الذين أعلنوا أن جيش الاحتلال هو جيش أعداء. ظهرت حدة الاختلافات، وليس الخلافات، وكذلك الصهيونية الدينية التي يمثلها متطرفون، ومن الواضح أن الأمر قد يصل بهم حد التمرد على الدولة ولو عبر قطعان المغتصبين في الضفة وغزة، وهو ما يدفعهم لتشكيل ما يشبه الجيش الخاص بهم. وكذلك أزمة ما يسمى باليسار والوسط الذي اكتشف أنه يمثل الجيش والأمن وحده وأنه معزول بهم عن الآخرين. وأزمة الليكود الذي وجد نفسه مرهوناً بعدد من المتطرفين لا يشبهونه أبداً، ولم يبق له دور إلا دور تنفيذ رغباتهم للحفاظ على حكومة أقل ما يقال فيها إنها تخدم شخصاً هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولا تخدم الليكود ولا الدولة. ثم مواجهة العرب الفلسطينيين الذين يعتبرون قنبلة موقوتة تهدد أمن دولة القاتل المأجور في أية لحظة وأي وقت، ثم بعض الأقليات التي كانت تعتقد أنها جزءاً أصيلاً من الدولة إذ أن الأصالة تكمن فقط في حقها في الموت دفاعاً عن دولة القاتل المأجور وفي الحقوق يعودون عرباً. الجبهة الأخيرة هي جبهة ذوي الأسرى لدى المقاومة في غزة الذين يشكلون أيضا قنبلة موقوتة ضد نتنياهو وعصابته.
السبعة الرابعة: أسلحة الجريمة السبعة
استخدم الأعداء ضد الشعب الفلسطيني أسلحة سبعة للقتل، أولها السلاح ومعه الغذاء والماء والدواء والغطاء والرداء والكهرباء حتى باتت وحشية الاحتلال وسيده لم يعرف لها مثيل في التاريخ. كذلك مظلمة الشعب الفلسطيني التي لم يكن هناك مثيلاً لها جريمة علنية آنية بعلم ومعرفة الكون علناً وعلى رؤوس الأشهاد وفي البث الحي المباشر حتى بات كل صامت مشاركا في الجريمة. ولأول مرة في التاريخ تُستخدم مصادر الحياة كالماء والغذاء أدوات للقتل، وهو ما لن ينساه أحد غداً.
السبعة الخامسة: وهي الأزمات الداخلية الأميركية
هذه الأزمات لم تمت ولا يمكن أن تموت رغم مئات السنين. وقد تكون اكتشفت ذلك مع بروز أزمات دولة قاتلها المأجور وهي لذلك تعيش أزمة العنصرية النائمة تحت الرماد والفقراء والتجاذبات الدينية والاختلافات العرقية وأزمات اقتصادية ومشاكل المثليين وصراعات الحزبين. بذلك تكون أيضاً أسيرة ظهور كل هذه الأزمات في هذا الوقت أو ذاك، مما يعني أن الانصهار الحقيقي وتشكل أمة أميركية حقيقية ما زال حتى اللحظة مصطنعاً وفي كل مناسبة يعود كل إلى ذاته، أكانت لوناً أو ديناً أو عرقاً أو طبقة أو جنساً.
السبعة السادسة: الصراعات والأزمات الدولية
تتمثل في انعدام الانسجام ووحدة المصالح في الناتو، الصراع الصامت على السيطرة الاقتصادية مع أوروبا المفتقدة للطاقة والتي تتحكم بها الولايات المتحدة، الرغبات الروسية بالصدام لتعارض المصالح، والرغبات الصينية وبروز إيران ومحور المقاومة وأطماع كوريا الشمالية في الجنوبية، وشعور الهند بالغبن وسعيها لأن تلعب دوراً يساوي حجمها، وأزمات الألم في كل الجهات كالسودان وليبيا وأوكرانيا وفلسطين وأزمة الطاقة وأزمة النووي التي تحولت إلى عدوى لدى كل دول العالم تقريباً وهي لن تبقى حكراً على القوى العظمى.
السبعة السابعة: سبعة التناقضات الكونية
تبدو صورتها جلية مع الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا وإيران ومحورها وكوريا الشمالية والأزمة مع المكسيك، والحروب المفتوحة في جهات الأرض، وأزمة الطاقة. كل هذه الأزمات السبع باتت تطل برأسها بهذا الشكل أو ذاك مع طول مدة الحرب في أوكرانيا وغزة والسودان والعديد العديد من المواقع، أما المشتعلة أو التي على حافة الانفجار كما هو الحال في أفريقيا اليوم.
هل كان عباس بن فرناس مغامراً، منتحراً، غبياً، مستعرضاً، باحثاً، عالماً، ملهماً؟ وهي أيضا أسئلة من الصعب الإجابة عليها بإجابات قاطعة ولذا كان هناك من يرى واحدة من هذه التهم، والبعض ألصقها به دون تفكير. لكن الحقيقة المطلقة أن كل الذين منحوه أياً من هذه الألقاب منحوه ذواتهم كما يفكرون هم، فالذين لا يرون أبعد من أنوفهم اعتبروه مغامراً وغير عاقل، والبعض وصل به الأمر حد اتهامه بالكفر، معتبراً أن تجربته كانت انتحاراً وقرر أن مآله النار. بينما رأى فيه المبدعون والباحثون وأصحاب الأسئلة العقلية الصعبة ملهماً لهم فشمروا عن سواعد عقولهم وانطلقوا بحثاً من خلف التجربة العظيمة التي صنعها ابن فرناس. رغم أن الجهلة اتهموه أكثر من مرة بالشعوذة والزندقة والخرافة، وحوكم لأكثر من مرة وتمت تبرئته من التهم تلك. ولا زال العالم يعترف لعباس بن فرناس بأنه الملهم الأول لفكرة الطيران.
إقرأ أيضاً: الإمام الخميني وجدتي وعمي ومعلمي
حتى السابع من تشرين الأول (أكتوبر) كان الجهلة أنفسهم من اتهموا ابن فرناس ممن لا يعرفون العيش في القمم، يعتقدون أن الولايات المتحدة قدر لا بد منه، وأن أحداً لا يستطيع الانتصار عليها أو على قاتلها المأجور دولة الاحتلال في فلسطين، إلى أن جاء السابع من تشرين الأول (أكتوبر) فكان الموقف منه تماماً كالموقف من ابن فرناس. البعض اتهم أصحاب السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بنفس التهم التي اتهم بها عباس ابن فرناس وراح البعض يكيل لهم التهم، لكن الحقيقة التي عرفها ويعرفها وسيعرفها العقلاء أنهم كانوا ملهمين وأنهم قدموا للبشرية جمعاء، وليس للشعب الفلسطيني فقط، حبلا يمكن استخدامه بكل الأوجه، فهناك من سيستخدمه للهبوط إلى قاع البئر والاختباء، وهناك من سيستخدمه ليبني له شبكاً يحتمي به من الهواء، وهناك من سيصنع لنفسه حاجزاً ويختبئ خلفه فلا يتقدم خطوة إلى الأمام خشية المجهول، والبعض الأذكى سيستخدمه لحفر بئر في الصحراء ليخرج تراب البئر ويحولها إلى جبل يجعل من مجموع الفرق بين قمة الجبل وقاع البئر محلاً للصعود إلى الأعلى والإمساك بالحقيقة التي غابت كل الوقت عن أعين الأغبياء الذين كانوا يعتقدونها مستحيلة.
هذا هو واقع الحال اليوم، وبالتالي فإن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) صنع ما كان مطلوباً منه، مع أن ذلك كان على دم عشرات الآلاف من أبناء الشعب والذين كانوا يموتون جوعاً وخنقاً وحصاراً وإلغاءً. كل ما تغير أنهم قتلوا بالرصاص، أكان رصاص بندقية أم رصاص الحرمان من الماء والغذاء والرداء. غدا لن تستطيع قوى الجريمة أن تواصل جريمتها، فهي تدرك أن عوامل هزيمتها باتت من كل الجبهات التي سبق ذكرها. فالأزمة داخل الولايات المتحدة أيضا يمكن أن تنفجر، وكل الراغبين بالتخلص من سطوتها سيصحون بعد أن اكتشفوا أنها وقاتلها المأجور ليسوا أكثر من نمر من ورق. وبالتالي فداحة الثمن الذي دفعه شعبنا ولا زال يدفعه، وخصوصا في غزة، وسيبقى يدفعه إلى أمد طويل لم يكن أبدا بسبب السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على الإطلاق، بل بسبب مبررات حدوثه. وإلا فإن من يعترض على السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أن يقول علنا إنه مع بقاء الاحتلال بل ومع الالتحاق به، بل ومع الموافقة على أن يبقى خادما لنظريات بن غفير وسموتريتش على قاعدة أن كل من هو غير يهودي من الأغيار أي من الخدم.
إقرأ أيضاً: نتنياهو الثابت المهزوم برغبة الجميع
اليوم نحن في واقع جديد رغم قساوته وفداحة الموت الذي يجوب بلادنا، إلا أن الغد هو الذي سيحكم على ما جرى. فبيد الفلسطينيين الآن حبلاً يمكنهم استخدامه كيف شاءوا، بل وبيد أحرار الأرض جميعا أن يصعدوا به إلى عنان السماء أو أن ينزلوا به إلى باطن الأرض ويختبئوا. غدا بعد أن تضع المقتلة أوزارها، سيتعلم العالم وفي مقدمتهم من يحتلون بلادنا أن من المستحيل تحويل الدين إلى قومية، وأن من المستحيل أن تعيش حرا على جماجم الآخرين، وأن من المستحيل أن تفلت بفعلتك، وأن العالم لن يبقى مغفلا إلى الأبد، ولن يبقى طوع بنان أحد إلى الأبد، وأن الأجيال القادمة لن ترضى للجريمة مكانا بينها حين تكتشف أنه لا بديل لها سوى سلامها.
كل ما تقدم لن يصبح حقيقة واقعة إذا بقي هناك من يعتقد أن الحقوق منحة من سيدة العصابة أو أتباعها وقتلتها المأجورين، وأن الحرية حق لا يملكه إلا أصحابه، وأن برامج الشعوب لا يمكن أن تقوم وتنتصر إلا على قاعدة المقاومة، ودون ذلك طحن للماء لا أكثر ولا أقل.
التعليقات