تغيير أنظمة الحكم في بعض الدول، بدءاً من العراق وانتهاءً بليبيا واليمن، أعاد نوعاً ما قواعد اللعبة السياسية الخفية مجدداً إلى مسارها المتفق عليه من قِبل القوى العظمى التي تتحكم بإدارة العالم، باستثناء روسيا التي سارت عكس التيار وحاولت رسم شرق أوسط جديد تحت قيادتها. في بداية عام 2012، ومن خلال التعمق في الأزمة السورية ومساندتها للنظام السوري ومحاولتها الانطلاق من دمشق نحو الدول العربية والخليج العربي ودول أفريقيا، اعتمدت روسيا في سياستها الجديدة ومواجهتها للمجتمع الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، على قوتها وهيبة ترسانتها النووية وامتلاكها مفاتيح الطاقة إلى أوروبا.

منذ بداية الصراع العسكري في سوريا، تدخلت روسيا ودعمت النظام السوري، وتمكنت من بسط سيطرتها على أجزاء واسعة سياسياً وعسكرياً وكذلك دبلوماسياً. نجح الإعلام في الداخل في خلق انطباع وصورة إيجابية لإدارة الكرملين، عبر جولات دبلوماسية إلى كل من الإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر ومصر لمحاولة إنشاء تحالف جديد لدول المنطقة بعيداً عن تحالفاتها السابقة مع الولايات المتحدة الأميركية. لم يمضِ عامان على الحرب في سوريا، وتحديداً بداية 2014، حتى اصطدم المشروع الروسي بمصالح كل من تركيا وإيران في سوريا، والتي لم تتوافق مع مصالح تل أبيب أيضاً. أدركت روسيا عندها أنها في مستنقع كبير ولن تكون لها القدرة على المواجهة في حرب يكون طابعها "الاشتراكية، السنية، الشيعية". موازين القوى الجديدة على الأرض أجبرت إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الإسراع في رسم سياسة جديدة، وتحديداً في كانون الثاني (يناير) 2017 حينما أسست منصة الآستانة، عبر وضع تفاهمات وقواعد جديدة للأزمة السورية بعيداً عن مهام جنيف وقراراتها. بالتالي، الالتزام بقواعد الحلف الثلاثي (موسكو - أنقرة - طهران)، وفي ذات الوقت الاتفاق على مواجهة المشروع الأميركي وقرارات الأمم المتحدة وإجهاضها. جاءت التكملة من خلال مباحثات سوتشي في كانون الثاني (يناير) 2018 للتوقيع على وثيقة ذلك الاتفاق بضمان من موسكو على أنها لن تمرر أي قرار داخل مجلس الأمن الدولي يتعارض أو لا يتماشى مع مصالحها ومصالح حلفائها، وخاصة إيران وتركيا.

سعت روسيا جاهدة إلى قلب الموازين ومحاولة كسر الجمود الأوروبي تجاهها، فدخلت في حسابات خاطئة أو ربما تعرضت لخيانة داخلية في الكرملين التي أيدت مهاجمة أوكرانيا بقرار غير صائب وغير واضح في دقة النتائج المترتبة. بالتالي، حشدت كل طاقتها وإمكاناتها العسكرية والاقتصادية واستخدمت كافة أوراق الضغط في مواجهة الغرب. بعد تيقنها أنها باتت في مرحلة الاستنزاف، لوحت بالتهديد بإشعال شرارة الحرب العالمية الثالثة عبر التلويح باستخدام ترسانتها النووية. كل ذلك في محاولة إيقاف استنزاف قدراتها أو إضعاف هيبتها ومكانتها الاقتصادية والعسكرية.

ظهرت مع هذه التطورات خفايا قواعد اللعبة المتفق عليها من قِبل المجتمع الدولي، ومن ضمن إحدى بنود هذه الخفايا، العمل بكل جدية على منع التصادم المباشر بين أي دولة وأخرى تتواجد في سوريا، سواء في المناطق التي مازالت تحت سيطرة النظام أو المناطق التي يسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، أو مناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا. بالفعل، رغم تواجد جيوش عسكرية وأجهزة استخباراتية ودبلوماسية لأكثر من عشر دول متصارعة فيما بينها، لم تحدث مواجهة وصراع مباشر بين تلك الدول مطلقاً، باستثناء بعض الخروقات الطفيفة. لكن لا ننسى وكما هو معلوم، أن حرب الوكالات كانت الأكثر حدة، بالتوازي مع القوة العسكرية لتلك الدول التي كانت على رأس الحربة. مع ذلك، الجميع كان متفقاً خفياً بالالتزام بقواعد اللعبة السياسية وعدم الدخول في المواجهة المباشرة.

إقرأ أيضاً: الكورد حلفاء الحاضر دون مستقبل

هذا الاستنزاف الكبير والأضرار بالمصالح الاقتصادية والعبء الكبير على المجتمع الدولي أدى إلى تجميد العمليات العسكرية في سوريا نوعاً ما. يعود السبب الرئيسي إلى فقدان العنصر البشري على الأرض، والذي بدوره أدى إلى تقليل عدد الجنود حاملي الجنسية السورية المنخرطين في الحرب ضمن صفوف معظم الفصائل والقوات، سواء من جانب النظام أو المعارضة أو الأطراف المحايدة. أي تصعيد عسكري سينهي البعض ويقلب الموازين السياسية الخاصة بتسوية الأزمة في سوريا، وسيرجح كفة طرف إقليمي أو دولي على حساب طرف آخر داخل الساحة السورية. هذه النتيجة إن حصلت ستجبر على نقل حرب الوكالات إلى حرب المعنيين، وهو ما سيؤدي إلى فوضى عارمة في الشرق الأوسط وأوروبا. هذا الأمر مرفوض وغير وارد اللجوء لهذه الخيارات. لذلك، تم الحد من العمليات العسكرية بين أطراف الصراع على الأرض وحتى تجميدها إلى أقصى حد ممكن، لضمان استمرار الصراع بين الحين والآخر بفترات متقطعة وأحداث معينة، التي تغطي نوعاً ما على حدث آخر في مكان مختلف، بهدف عدم الوصول إلى نقطة النهاية في الوقت الراهن لجميع الملفات العالقة والشائكة. بكل تأكيد، تبقى إرادة الشعوب مسلوبة تماماً وخلف قضبان مصالح من ينادون بحقوق الإنسان ومن يدعون أنهم يمثلون الديمقراطية وحق الشعوب في العيش بحرية وكرامة. تحريك ملف اللاجئين وإعادتهم قسراً يشير ربما إلى وجود مخطط ممنهج لإدخالهم في الصراع الدائر، لا سيما الوضع الاقتصادي المزري الذي يسوء أكثر وسيجبر من تم إعادتهم إلى تقديم ولائهم لطرف سياسي وعسكري والانخراط في القتال في سبيل تأمين لقمة عيش عوائلهم.

إقرأ أيضاً: الكورد والعرب معاً في مواجهة تحديات الألفية الجديدة

شعوب الشرق الأوسط بحاجة إلى ثورة وعي وتطور وثقافة متحضرة، ثورة من نوع آخر تتغلب فيها لغة السياسة والخطاب والحوار على لغة السلاح والدمار والقتل. للأسف، ما زالت التكنولوجيا الحديثة تتحكم في الكثير من الشعوب وتديرهم وتهدر حاضرهم ومستقبلهم، رغم أنه من السهل جداً تغيير المعادلة والتحكم في التكنولوجيا والاستفادة منها لبناء حاضر ومستقبل مزدهر بالحرية والأمن والسلام.