فِي عِيدِ مِيلَادِي الْخَامِسِ وَالْأَرْبَعِينَ، سَأَلَتْنِي ابْنَتِي سُؤَالًا يُلَهِّبُ قَلْبِي:

"لِمَاذَا اخْتَرْتَ الْكِتَابَةَ وَالتَّعْلِيمَ فِي لُبْنَانَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ حَالَ الْكُتَّابِ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ؟".

كَانَ سُؤَالُهَا كَالْبَرْقِ يَشُقُّ عَتْمَةَ رُوحِي، فَتَسَاقَطَتِ الْحُرُوفُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، تَتَسَابَقُ لِتُخْبِرَهَا الْحَقِيقَةَ بِلَا رُتُوشٍ. كَيْفَ يَرَى الْمَرْءُ الْوَاقِعَ وَلَا يُوَاجِهُهُ؟ كَيْفَ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْآخَرِينَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وِلَادَةٌ ثَانِيَةٌ لِلْإِنْسَانِ، وَأَنَّ الْحَرْفَ أَمَانَةٌ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُتَاعًا؟

لَقَدِ اخْتَرْتُ الْكَلِمَةَ يَا صَغِيرَتِي، لِأَنَّهَا لَمْ تُخَيِّرْنِي يَوْمًا، بَلْ هِيَ الَّتِي اخْتَارَتْنِي. أَخَذَتْ بِيَدِي مُنْذُ طُفُولَتِي، وَفَتَحَتْ أَمَامِي أَبْوَابَ الْمَعْرِفَةِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَقَالَتْ: "إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَمِينًا لِي، وَإِمَّا أَنْ تُخُونَ نَفْسَكَ." فَمَشَيْتُ فِي دَرْبِهَا، عَارِفًا أَنَّ الطَّرِيقَ ضَيِّقٌ، وَأَنَّ ثَمَنَ الْوَفَاءِ لِلْكَلِمَةِ غَالٍ، وَأَنَّ الْوَفَاءَ لِلْحَرْفِ قَدْ يُكَلِّفُكَ حَيَاتَكَ الْيَوْمِيَّةَ، كَمَا حَدَثَ مُنْذُ زَمَنِ ابْنِ الرُّومِيِّ الَّذِي لَمْ تَسْتُرْ كَلِمَتُهُ حَالَ عَائِلَتِهِ، وَالْمُتَنَبِّي الَّذِي لَجَأَ إِلَى الْمَدِيحِ لِيَكْسِبَ قُوتًا، بَيْنَمَا ظَلَّتِ الْكَلِمَةُ صَادِقَةً وَلَمْ تَهِنْ عَلَى قَدْرِهَا.

لَكِنَّنِي أَحْمِلُ غُصَّةً فِي صَدْرِي لَا تَذُوبُ. خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَامًا أَرَى الْكَلِمَةَ تُقَاتِلُ لِكَيْ لَا تَمُوتَ. بِلَادُنَا كَالْأُمِّ الْمُحِبَّةِ الْغَافِلَةِ؛ تَحْتَضِنُ الْجَسَدَ وَتَغْفُلُ عَنِ الرُّوحِ. تَحْتَضِنُ الشَّاعِرَ وَتَتْرُكُهُ وَحِيدًا أَمَامَ فَقْرِهِ وَعُثْرَاتِهِ. تُنْشِدُ الْقَصَائِدَ فِي حُبِّ الشُّعَرَاءِ، ثُمَّ تَدَعُهُمْ فَرِيسَةً لِلْعَوْزِ وَالنِّسْيَانِ. تُصَفِّقُ لِلْخُطَبِ الرَّنَّانَةِ، ثُمَّ تُحَاكِمُ صَاحِبَ الرَّأْيِ إِذَا عَبَّرَ عَنْ حَاجَةِ النَّاسِ.

أَنْظُرِي إِلَى جُبْرَانَ، لَوْلَا الْغُرْبَةُ مَا صَارَ جُبْرَانًا. وَنِزَارٌ، لَوْلَا أَنَّ الرِّيحَ حَمَلَتْهُ بَعِيدًا، لَظَلَّتْ كَلِمَاتُهُ حَبِيسَةَ الْأَدْرَاجِ. وَمَحْمُودُ دَرْوِيشٌ، لَوْلَا أَنَّ الْعَالَمَ اسْتَمَعَ لَهُ، لَظَلَّ صَوْتُهُ يَئِنُّ فِي الْوَادِي. شَرْقُنَا يُلِدُ الْعُظَمَاءَ، ثُمَّ يَدْفِنُهُمْ فِي تُرَابِ النِّسْيَانِ، حَتَّى إِذَا أَشْرَقُوا مِنْ غَيْرِ أَرْضِهِ، قَالَ: "هَؤُلَاءِ أَبْنَائِي!"

عِشْتُ فِي هَذَا الْوَطَنِ أُقَاتِلُ بِقَلَمِي وَأُقَاوِمُ بِكَلِمَتِي. رَأَيْتُ رِفَاقَ الدَّرْبِ يَمْضُونَ حَيْثُ تُكْرَمُ الْعُقُولُ، وَبَقِيتُ أَنَا أَرْعَى جَمْرَةَ الْأَمَلِ. هَا هُمْ الْيَوْمَ يُمْدُونَ لِي أَيَادِيَهُمْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، وَأَنَا أَرْفُضُهَا لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الْكَلِمَةَ لَا تَزْرَعُ فِي الْهَفْوِ، بَلْ فِي الْوَفَاءِ وَالْحُرِّيَّةِ.

لَسْتُ نَادِمًا، وَلَكِنَّنِي حَزِينٌ عَلَى وَطَنٍ يَبْخَسُ أَهْلَهُ حَقَّهُمْ، وَشَعْبٍ يَقْرَأُ الشِّعْرَ وَلَا يَقْرَأُ صَاحِبَهُ.

أُوصِيكِ يَا صَغِيرَتِي: لَا تَجْعَلِي الْأَدَبَ وَطَنَكِ الْأَوْحَدَ. لَا تَجْعَلِي الْحُرُوفَ سَفِينَةَ نَجَاتِكِ. اتَّخِذِي مِنَ الْكَلِمَةِ جَنَّةً لِرُوحِكِ، لَكِنِ امْضِي إِلَى حَيْثُ تُصَانُ الْحُرُوفُ وَيُكْرَمُ صَاحِبُهَا. تَعَلَّمِي أَنَّ الْكَلِمَةَ الْحُرَّةَ لَا تَنْبُتُ إِلَّا فِي أَرْضٍ مُخْلِصَةٍ لِلْحُرِّيَّةِ.

لَا تَنْسَيْ: الْإِنْسَانُ يُولَدُ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً مِنْ رَحِمِ أُمِّهِ، وَمَرَّةً مِنْ رَحِمِ كَلِمَتِهِ. وَلِادَةُ الْكَلِمَةِ أَقْسَى، فَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى أَلَمٍ يُحَطِّمُ الْقُيُودَ، وَإِلَى صَمْتٍ يُخْرِجُ الْأَصْوَاتَ.

سَأَبْقَى هُنَا، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ وَطَنِي. سَأَبْقَى أَكْتُبُ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ هِيَ صَلَاتِي. سَأَبْقَى أُعَلِّمُ، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ ثَوْرَتِي.

إِنَّنِي فِي الْخَامِسَةِ وَالْأَرْبَعِينَ أَرْفُضُ أَنْ أَكُونَ غَرِيبًا فِي أَرْضِي، أَرْفُضُ أَنْ أَكُونَ صَدًى لِصَوْتٍ لَا يَجِدُ أُذُنًا. سَأَبْقَى أَقْرَعُ بِالْكَلِمَةِ أَبْوَابَ السَّمَاءِ، حَتَّى إِذَا انْفَتَحَتْ، قُلْتُ: "هَذَا هُوَ الشَّرْقُ الْجَدِيدُ الَّذِي حَلُمْتُ بِهِ."

كُتِبَ فِي عِيدِ مِيلَادِي الْخَامِسِ وَالْأَرْبَعِينَ.