يقول لينين، قائد ثورة أكتوبر الروسية 1917: "هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وأسابيع تحدث فيها عقود".

لم نحتج سوى أكثر من عام كي تتسارع الأحداث بشكل دراماتيكي، كي يكتشف العالم مدى الإفلاس الدعائي لدعاة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان الذين أصموا آذاننا طوال قرن من الزمان.

وبموازاته، ومنذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تكشف الأحداث أيضًا بشكل جلي ودون أي لبس عن الإفلاس الدعائي أيضًا لمحور المقاومة والممانعة، الذي رفع شعارات "تحرير فلسطين" و"رمي إسرائيل في البحر" خلال عقود من القرن العشرين، بما فيها مرحلة انتقال البندقية من كتف الحركة القومية العربية، عرابة "الأمة العربية"، إلى كتف الإسلام السياسي حاليًا. وفي خضم تلك المرحلة، كان مصير من حاول المطالبة برغيف خبز أو فسحة من الحرية هو فبركة تهمة العمالة للصهيونية والإمبريالية والزج في السجون والمعتقلات.

يمكن تفهم قتل يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحماس وقائد عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، في ساحة المعركة وهو يرتدي الزي العسكري مدججًا بالعتاد، إذ هناك حرب بين طرفين ولا بد لأحد منهما تصفية الآخر. إلا أن ما لا يمكن استيعابه أو قبوله لكل من صنف نفسه في خانة الإنسانية والأدمية هي التعليقات والتصريحات حول مقتل السنوار من قبل البيت الأبيض ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوئيل غالانت، حيث تكشف لنا أن أسلوب عصابات المافيا هو معيار تحقيق "العدالة" الأميركية والإسرائيلية في تصفية المعارضين والمخالفين لسياسة البلطجة التي يمارسونها.

رسالة جون بايدن إلى الكونغرس الأميركي قبل أيام قليلة، بإخباره بإبقاء القوات الأميركية في الشرق الأوسط لحماية مصالح إسرائيل وأميركا، تميط اللثام عن مرحلة جديدة مفادها سعي جديد لعودة الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط، ولكن هذه المرة بقوام حشود عسكرية كبيرة وضخمة من غواصة نووية والمدمرات والبوارج البحرية وحاملات الطائرات والدفاعات الجوية وأنواع مختلفة من الأسلحة المتنوعة والمتطورة. وتلك الرسالة، وما أدلى به نتنياهو بعيد إعلانه حربه على لبنان بعزم حكومته على تغيير خارطة الشرق الأوسط، هي محاولة جديدة لترميم النفوذ الأميركي في المنطقة بعد فشل الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية بتأسيس مشروعها "الشرق الأوسط الجديد" بنكهة أميركية مرتين في السابق. وكان قد وضع أسس المشروع المذكور لأول مرة بعد غزو واحتلال العراق في عام 2003، في عهد ما سمي إدارة المحافظين الجدد التي كان يقودها جورج دبليو بوش، والثانية بعد هبوب نسيم الثورتين المصرية والتونسية على المنطقة في ما سمي بالربيع العربي 2011، وسعيها لترسيخ سلطة "الإخوان المسلمين" التي سميت زورًا وتزيفًا بالإسلام المعتدل لقيادة المشروع الأميركي في المنطقة وشمال أفريقيا، وكان بزعامة باراك أوباما. والحق يقال، كانت سياسة جهنمية للالتفاف على الثورتين واحتوائهما عبر تكليف رسمي للجماعات الإسلامية لوأد الثورتين. أما المحاولة الثالثة، فهي اليوم، حيث أعطى السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كما أعطى الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، فرصة ذهبية للانقضاض على العالم عبر الهيمنة والغطرسة الأميركية، واليوم بأدواتها الكاسرة التي تسمى إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.

وإذا ما اختبأت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية من مراكز الدراسات والإعلام المأجور ورجالات البنتاغون ومجالس إدارة شركات (لوكهيد مارتن) وول ستريت وموظفيهم الذين يمثلونهم في البيت الأبيض تحت يافطة القانون الدولي وحماية سيادة الدول وحقوق الإنسان والديمقراطية في دعم الطغمة الفاسدة في أوكرانيا في حربها ضد تمدد الإمبريالية الروسية، ففي غزة ولبنان مزقت الطبقة الحاكمة الأميركية جميع أقنعتها الزائفة التي كانت ترتديها في حرب الوكالة في أوكرانيا. لقد أسدل الستار عن مسرحية النفاق التي طالت فصولها بتباكيها على أهالي غزة من قبل الإدارة الأميركية والغرب الديمقراطي. إن إدارة بايدن تتحدث اليوم علانية عن حق إسرائيل في حربها على لبنان تحت عنوان تدمير البنية العسكرية لحزب الله. وقد أرجأت مشروعها مع فرنسا إلى إشعار آخر بإيقاف الحرب وحتى تغاضت عن تطبيق قرار 1701. وأبعد من ذلك، فقد وصلت إدارة بايدن إلى وضع نهاية لمسلسلها السمج والممل عن التسريبات الممنهجة اليومية حول "زعلها" أو امتعاضها أو انزعاجها أو عدم علمها بما فعله ابنها الضال نتنياهو. والاثنان، بايدن ونتنياهو، يعيشان اليوم منسجمين تحت سقف واحد، وهو سقف الأحلام والتمنيات بتحقيق "شرق أوسط جديد". وكل القرارات الدولية مثل محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية ومجلس الأمن نثرت في الهواء وأخذتها الرياح، ولا شيء يوقف تحقيق استراتيجية أميركا-إسرائيل في المنطقة، مهما بلغ الانحطاط السياسي والأخلاقي لما يسمى بالمجتمع الدولي، الذي يقف متفرجًا أمام جرائم إسرائيل التي لم تضاهها في التاريخ الحديث سوى جرائم النظام النازي في ألمانيا.

إقرأ أيضاً: سيناريو فاشي جديد في لبنان

على الجانب الآخر، يقف محور المقاومة في حالة لا يحسد عليها. فقضية فلسطين والقدس وُضعت جانبًا، والخطوط الحمراء في ضرب حزب الله من قبل إسرائيل تحولت إلى خطوط خضراء، وأصبحت القضية المحورية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أي إنقاذ الجمهورية الإسلامية من خطر نشوب أي حرب ضدها، وخاصة عندما أفشى نتنياهو بالسر في خطابه للشعب الإيراني بسعيه لإسقاط النظام السياسي في إيران. وتدور الماكنة الدبلوماسية الإيرانية بسرعة أكبر من السرعة اللبنانية، لإيقاف الحرب في لبنان وتطبيق قرار 1701، وكل ذلك من أجل إنقاذ رأس حزب الله، السد الدفاعي، عن النفوذ القومي الإيراني والمطل على البحر المتوسط وبوابة التمدد إلى الشرق الذي سمي بالعربي.

وأكثر من ذلك، يصف لنا خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس في الخارج، في خطابه بمناسبة الذكرى الأولى للسابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أن ما قتل ودمر في غزة على يد الفاشيست الإسرائيليين وإطلاق أياديهم في الضفة الغربية هي خسائر تكتيكية. ويبدو أن معيار النصر والخسائر الاستراتيجية التي لم تمنى بها حماس هو استمرارها تحت الأرض وفي خارج قطاع غزة. فموت عشرات الآلاف من الأطفال وجرف الأراضي وتحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للعيش وترحيل حل القضية الفلسطينية وتأسيس دولة مستقلة للشعب الفلسطيني إلى أجل غير مسمى، فلا تصب في قائمة الخسائر التكتيكية.

إقرأ أيضاً: ما وراء قانون "مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي"

لا شك في أنَّ دولة إسرائيل الفاشية هي من تتحمل المسؤولية على ما حدث وما يحدث من جرائم سواء قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أو بعده. بيد أن استخفاف قادة حماس بكل هذه الخسائر الهائلة وتسميتها بالتكتيكية، فأي معيار للإنسانية لهم، ولشعب قدر العيش تحت سلطتهم، وهل ستكون للقضية الفلسطينية وقعها وتكون ملهمة وتكتسب مصداقية في صفوف الشعب الفلسطيني؟ إذا كانت كل هذه الخسائر تعتبر تكتيكية ولا قيمة لها في الاستراتيجية الدعائية والسياسية لحماس. وبنفس السياق، يسمي نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله، تهجير أكثر من ثلث اللبنانيين من بيوتهم ومنازلهم بالانتصار، ويغض الطرف عن كل ما يحدث من جرائم على يد إسرائيل في لبنان ويلخص إنجازاته بعدم السماح بعودة 60 ألف نازح إسرائيلي إلى مستوطناتهم في شمال إسرائيل، ويجدر بالذكر أنهم يسكنون الفنادق. في حين مئات آلاف من اللبنانيين يفترشون العراء في شوارع المدن، وهؤلاء وضعهم حزب الله كبش فداء للدفاع عن وجوده السياسي في لبنان وحماية حلفه مع إيران في المنطقة. وتحول الآن خطاب نعيم قاسم من المساندة لسكان غزة إلى الدفاع عن لبنان. ومنذ الأيام الأولى أشرنا إلى أن حزب الله دخل في خط المواجهة مع إسرائيل عبر تحديد قواعد الاشتباك، ليس من أجل الدفاع عن سكان غزة ولا عن عدالة القضية الفلسطينية، بل كان يخشى من اليوم الذي يعيش رحاه الآن. كان يحاول درء خطر دولة إسرائيل الغارقة بوحشية جرائمها بعد التخلص من حماس. ويصل خطاب نعيم قاسم إلى أبعد مديات السخرية عندما يقول لمريديه لولا دعم الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل لهزمت الأخيرة، ولكن ماذا عن دعم إيران لحزب الله؟ هل دون دعمها كان قادرًا على الانتصار على إسرائيل، أو لنقل على الأقل الاستهتار في طول لبنان وعرضه على مدى عقود من الزمن والحفاظ مثل أقرانه في المعادلة السياسية اللبنانية على الخطاب الطائفي المقيت، وهو المسؤول الأول عن ما حدث من تفشي الفقر والبطالة والفساد واحلال قانون المليشيات مثلما هو يحدث لدينا في العراق!

إقرأ أيضاً: لماذا هذا الهلع من البعثيين!

إنَّ المعطيات المادية للطرفين تكشف لنا عن مديات التحقير للإنسان بكل ما تعنيه هذه الكلمة. إنَّ الآلة الدعائية لقطب الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحور المقاومة، عبر بشكل جلي ودون أي لبس عن إفلاس مطلق بامتياز. وكلاهما يحاربان من اجل صياغة معادلة جيو سياسية جديدة، لكل واحد منهما مكانة وموطأ قدم فيها، بينما يدفع الشعبان الفلسطيني واللبناني حياتهم وأمنهم وحريتهم ثمناً على مذبح نفاقهم وكذبهم الفاضح. وفي خندق المحورين، الغرب الديمقراطي وحقوق الإنسان الداعم للسياسات النازية لإسرائيل، وخندق التمدد القومي الإيراني وحلفائه من المليشيات في المنطقة، لا مكان للإنسان ولا لقيمته واعتباره. وفي كلا الخندقين لن تجد أبداً حل القضية الفلسطينية سوى في سياق الدعاية السياسية، لأن بحل القضية الفلسطينية عبر تشكيل دولة مستقلة للشعب الفلسطيني، ستتغير خارطة الشرق الأوسط أيضاً، لكن في غير صالح هيمنة وغطرسة الإمبريالية الأميركية، أو صالح النزعة التوسعية القومية للجمهورية الإسلامية في إيران، ومحورها المقاوم والممانع، ولذلك نجد أن الطرفين يقاومان بشكل أو بآخر حل القضية الفلسطينية.