في صباحٍ خريفيٍّ شاردِ، حيثُ السماءُ تتنفسُ غيوماً عابرةً، كأنما هي مشهدٌ من فيلمٍ سينمائيٍّ طويلٍ يحكي حكايةَ الزمنِ الذي يهمُّ بالانحناءِ نحو النهايةِ، رنَّ هاتفي على غيرِ ميعادٍ. كنتُ جالساً إلى مائدةِ أحدِ المقاهي القريبةِ من الشاطئِ، أرشفُ قهوتي الإيطاليةَ اللذيذةَ، وأراقبُ المارّةَ على الكورنيشِ، وأتأملُ محبي الرياضةِ الصباحيةِ، وكم هم كُثُرٌ في هذه المدينةِ الساحرةِ.

ونظرتُ إلى الأعلى، فرأيتُ سربَ طيورٍ يحلقُ في انسجامٍ، كأنما هوَ قصيدةٌ تحكي رحلةَ البحثِ عن الدفءِ. فذكرتُ رحلتي، ورحلةَ الكثيرينَ من أبناءِ وطني، الذين تشتتوا في أصقاعِ الأرضِ، هاربينَ من براثنِ الحربِ، باحثينَ عن أمانٍ لم يجدوهُ إلا في الغربةِ.

وعادَ هاتفي يرنُّ من جديدٍ، وأنا غارقٌ في تأملي، لم أسمعْهُ أولَ الأمرِ، فقد غلبتْ عليَّ نغماتُ أغنيةٍ إيطاليةٍ حزينةٍ، وشرودي مع الطيورِ المهاجرةِ، وابتساماتِ الحسناواتِ اللواتي يمارسنَ رياضةَ الصباحِ. لكنّ الاهتزازَ اللطيفَ للهاتفِ نبهني، فنظرتُ حولي فوجدتُ النظراتِ تتجهُ نحوي، وكأنّ الأغنيةَ التي تنبعثُ من جوالي قد جعلتني نجماً في ذلك المشهدِ العابرِ.

فأسرعتُ بفتحِ الهاتفِ دونَ أن أنظرَ إلى اسمِ المتصلِ، فإذا بصوتٍ يأتيني كنسمةٍ عليلةٍ، حنونٍ، عذبٍ، كأنهُ ماءٌ زلالٌ يسري بينَ الأزقةِ القديمةِ. كانت زميلتي الإعلاميةَ، التي شاركتني العملَ في إحدى الصحفِ العربيةِ قبل أن أُبحرَ بعيداً. أخبرتني بأنها هنا، في مهمةٍ صحفيةٍ، ترافقُ وفداً سياحياً لتغطيةِ بعضِ الفعالياتِ.

إقرأ أيضاً: اليابان: مهد الإبداع وحلم كرة القدم العالمية

وفي البدايةِ، لم أصدقُ! فقد عرفتُها صاحبةَ دعاباتٍ وخفةِ دمٍ، لكنّ صوتَها كان جاداً هذه المرةً. أكدتْ لي أنها تقيمُ في الفندقِ القريبِ من مكاني، فما كان مني إلا أن طلبتُ منها أن تنتظرني عندَ البابِ، وسأكونُ هناكَ خلالَ دقائقَ.

فأغلقتُ الهاتفَ ونهضتُ مسرعاً، وأنا أتذكرُ الأيامَ الجميلةَ التي قضيناها معاً في تلك الصحيفةِ العريقةِ، حيثُ كنا نتشاركُ الأفكارَ، ونختلفُ أحياناً، لكنّ الاختلافَ كان يذوبُ كالندى تحتَ شمسِ الصداقةِ. هي سلكتْ دربَ الصحافةِ الفنيةِ والأدبِ، وأنا اخترتُ عالمَ الملاعبِ الرياضيةِ، وربما كان اختياري غيرَ صائبٍ، ففي بلادِنا، لم تكنِ الرياضةُ سوى حلبةٍ للمآسي.

وقبلَ أن أصلَ إلى الفندقِ، رأيتُ بائعَ زهورٍ يقفُ عندَ زاويةِ الشارعِ، وكأنّ القدرَ أرادَ أن يذكرني بحبّها القديمِ للزهورِ. كانتْ دائماً تضعُ باقةً من الورودِ في مزهريةٍ على طاولتِها، كأنما هي تزرعُ الربيعَ في قلبِ المكانِ. توقفتُ واخترتُ لها باقةً من أجملِ ما لديهُ، وأنا أتذكرُ أيامَ عملي في محلّ زهورٍ في حلبَ، عندَ الرجلِ الطيبِ أنطون، أولَ من افتتحَ محلاً للزهورِ في المدينةِ.

إقرأ أيضاً: محمد صلاح: أيقونة الإبداع والتحدي في عالم كرة القدم

وكم كانتْ ذكرياتي مع الزهورِ حيةً! كنتُ أُوصِلُها إلى البيوتِ، والأعراسِ، وحتى إلى المشافي، حيثُ الدموعُ والابتساماتُ تختلطانِ. لكنّ أكثرَ الذكرياتِ غرابةً كانتْ عندما دخلتُ بيتاً لوضعِ باقةِ زهورٍ على جثمانِ سيدةٍ متوفاةٍ. لم أنسَ ذلك الخوفَ الذي تسللَ إلى قلبي، وكيفَ تركتُ الزهورَ وهربتُ كالريحِ، وكأنّ شبحَ الموتِ يلاحقني!

وقبلَ أن أصلَ إلى الفندقِ بخطواتٍ قليلةٍ، رأيتُها واقفةً تبحثُ عني بنظراتٍ شغوفةٍ. كانتْ كاللوحةٍ فنيةٍ، ممشوقةَ القامةِ، بشعرٍ أسودَ طويلٍ ينسابُ على كتفيها كشلالِ ليلٍ، وعيونٍ كعيونِ الغزلانِ ترسمُ الفرحَ والدهشةَ. وعطرُها، يا لهُ من عطرٍ! كانَ مزيجاً من ياسمينِ الشامِ وورودِه، يحملُ في رائحتِه عبقَ الأزقةِ القديمةِ والحنينِ.

وعندما لمحتني، هرولتْ نحوي، لكنّني كنتُ الأسرعَ، فانطلقنا في عناقٍ طويلٍ، كأننا نحاولُ تعويضَ كلّ السنواتِ الضائعةِ بيننا. دموعُنا سالتْ كأمطارِ دمشقَ المبكرةِ في أيلولَ، التي ينتظرُها العشاقُ ليمشوا تحتها، متشاركينَ لحظاتٍ من الحنينِ والدفءِ.

إقرأ أيضاً: معركة الأساطير: عندما يتواجه السامبا مع التانغو

وحينَ انفصلنا، سمعنا تصفيقَ المارّةِ من حولنا، وكأنّهم شاهدوا قصةَ حبٍّ قديمةً تعودُ إلى الحياةِ من جديدٍ. ابتسمنا لهم، ثمّ ابتسمنا لأنفسنا، لأنّ اللقاءَ بعدَ الفراقِ هو أجملُ ما في هذه الحياةِ.