هناك فرق بين إسرائيل التي تم صناعتها وفق رؤية غربية من حيث الوظيفة والأيديولوجيا وبين طموحات رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، الشخصية والمغلفة أيضاً برغائب أيديولوجية، لذلك فالرؤية الترامبية للشرق الأوسط تندرج في سياق الصناعة من حيث الأيديولوجيا ومن حيث الوظيفة، وهذا يتعارض بشكل كبير مع طموحات نتنياهو وفريق ائتلافه الحاكم بقوة الأغلبية البرلمانية. وعليه، أعتقد أنَّ الخلافات القائمة لا تتعلق بالاستراتيجيات المتفق عليها، وإنما ترتبط بالواقع الداخلي في إسرائيل والذي تهيمن عليه الأقلية التي لها أغلبية في الكنيست، وهذه الأقلية يحكمها مصالح إما شخصية أو قطاعية أو أيديولوجية، ولا يحكمها منطق استراتيجي دولاتي، أي أن استراتيجية الدولة وفقاً لرؤية الصانع لها والداعم تتقاطع مع رؤية الأغلبية فيها، في حين تتعارض مع رؤية أصحاب الأجندات الخاصة وعلى رأسها نتنياهو.
وعليه فإن نقاش واقع الحال الذي وصلت إليه العلاقة الأميركية - الإسرائيلية يجب النظر له بمنظارين، وليس بمنظار السيد والتابع، وهنا أقصد:
أولاً - هناك خلاف بين رؤية الرئيس ترامب وإدارته وبين تطلعات نتنياهو ورفاقه من سموتريتش وبن غفير.
ثانياً - هناك توافق بين مشروع ترامب وإدارته وبين الدولة في إسرائيل، فالنظام السياسي الدولاتي في إسرائيل يتفق مع الرؤية الأميركية لأنها تنقذه أولاً وأخيراً من دولة نتنياهو والصهيونية الدينية التي تريد أن تهيمن وتسيطر على النظام الدولاتي في الدولة، وبما يؤسس لنظام دولة منبوذ لا يشكل قاسماً مشتركاً أو وعاءً للكل اليهودي ولا يتماشى مع رؤية الصانع الغربي، أي أنها رؤية تعزل نفسها وتترك إسرائيل النتنياهوية كسفينة في بحر تتلاطمها الأمواج.
إنَّ الخلاف والقطيعة بين ترامب ونتنياهو، هو خلاف جوهري وليس شكلياً، أي أن المعضلة تكمن في المشروع الذي يريد أن يطرحه الرئيس ترامب، وهذا المشروع الذي يعطي إسرائيل ما ليس لها ويتناقض مع قرارات الشرعية الدولية أصلاً، لا يوافق عليه نتنياهو وأقطاب حكومته، لأن مجرد الموافقة تعني بداية النهاية لدولة إسرائيل المصطنعة.
إذا ما هو مشروع ترامب للمنطقة؟ ولماذا يرفضه نتنياهو؟
بداية أشير إلى أن جوهر الخلاف بين الاثنين ليس في حرب الإبادة على غزة، ولكنها أصبحت خط البداية وخط النهاية، بمعنى أنها فتحت آفاقاً للتطهير العرقي والتهجير والضم والسيطرة في عقلية من وجد في الطوفان "السابع من تشرين الأول (أكتوبر)"، فرصة لتنفيذ أجندة تنقذ رقبته من حبل المشنقة وتؤسس له تاريخاً يؤرخ الإنجازات غير المسبوقة بدل أن تسجل في تاريخه وصمات عار وعلى رأسها الإخفاق بل الهزيمة المخزية في السابع من تشرين/أكتوبر.
إذاً، البداية أعلاه تلخص الموقف من مشروع الرئيس ترامب والذي يعتمد على عناصر تؤسس له الحصول على جائزة نوبل للسلام الذي يطمح في الحصول عليها، ومشروعه مرتبط بمفهوم السلام بالقوة، أي فرض السلام بشكل قسري على كل الأطراف في المنطقة، وبحيث يؤدي إلى:
أولاً - توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية ويتصدر ذلك التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وهذا يتطلب وقف الحرب على غزة ومسار حل للقضية الفلسطينية.
ثانياً - حل القضية الفلسطينية وفقاً لرؤية كَيانية في غزة تتبع لها كانتونات الضفة الغربية التسعة "كتبنا مقالاً تفصيلياً حول ذلك عام 2018"، وهذا يتطلب وجود حكومة في إسرائيل تدعم ذلك "الآن غير موجودة"، ووجود قيادة فلسطينية توافق على ذلك "تم تحضيرها بمسمى الإصلاحات".
ثالثاً - متطلبات المشروع الترامبي تتوافق مع الرؤية الأيديولوجية للمسيحانيين "الإنجيليين الصهاينة"، من حيث السيطرة والسيادة على القدس وعلى أغلبية الضفة الغربية وبقاء كل الاستيطان تقريباً ما عدا العشوائي وضم الأغوار.
رابعاً - متطلبات المشروع الترامبي تعني توطين اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين والعنوان لذلك هي سوريا "الشرع".
خامساً - تكامل اقتصادي وأمني في المنطقة عبر اعتبار الدولة اليهودية جزءاً لا يتجزأ من المنطقة وبشكل طبيعي، بعد إنهاء مفهوم الصراع القائم والذي أساسه ومركزه القضية الفلسطينية.
سادساً - تحقيق ذلك سيؤسس لنفوذ أميركي نقي تقريباً على المنطقة ككل بعد الاتفاق النووي مع إيران وإدخالها أيضاً في المنطقة، مما يعزز موقف واشنطن وصراعها مع الصين، ويتم استغلال المنطقة الغنية بالثروات لإعادة أميركا عظيمة مرة أخرى.
هذا المشروع بالتأكيد هو لصالح الدولة الصهيونية، لكنه يتناقض كلياً مع مشروع نتنياهو الخاص ومشروعه الأيديولوجي المشترك مع الصهيونية الدينية، وهو مشروع القوة ومزيد من القوة وفرض الإخضاع والسيطرة والضم والتهجير على الضفة وغزة والمحيط العربي وفق رؤية السيد الصهيوني والتابع العربي، وهذا المشروع يؤسس ويدفع نحو مزيد من الصراع ويورط أميركا في حروب "الحرب مع الحوثي قبل الاتفاق" وعلى رأس ذلك مع "إيران"، وعليه فإن مشروع الرئيس ترامب سيؤدي إلى:
1- وقف الحرب على غزة أولاً والتطبيع بين السعودية وإسرائيل ثانياً وفتح مسار للتسويات السياسية ثالثاً.
2- سيؤدي حتماً لسقوط نتنياهو ومحاكمته لاحقاً وسقوط حكومته.
3- سيضع حداً للتطلعات الناتجة عن الإنجازات التكتيكية الإسرائيلية ما بعد السابع من تشرين/أكتوبر، وسينهي حلم نتنياهو في تسجيل تاريخ جديد يؤرخ له ويغطي فيه على وصمات العار التي تلاحقه من فساد ورشوة واحتيال وخيانة الأمانة، وفوق ذلك كله الإخفاق والسقوط للهاوية في الطوفان السنواري.
4- سيوسع الاتفاقيات الإبراهيمية لتشمل سوريا ولبنان "توطين اللاجئين الفلسطينيين".
إذاً مشروع الرئيس ترامب بالضرورة يستدعي إحداث تغيير في الداخل الإسرائيلي والداخل الفلسطيني، كون البقية من العرب هي أصلاً جاهزة، والعجم "إيران" تبحث عن اتفاق نووي مشرّف، و"تركيا" نفذت المطلوب منها في "سوريا" وتبحث عن دور لها في المنطقة.
نستطيع القول إن الوضع الفلسطيني يتم تحضيره جيداً، بل يبدو لي أنه أصبح تقريباً في حالة الجهوزية، كارثة غزة فرضت واقعاً جديداً وتستدعي حلاً إنقاذياً، وما أسموه إصلاح "نائب الرئيس" سيكون دوره في إعطاء الضوء الأخضر بالموافقة على مشروع ترامب وتحت حجة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
المشكلة كالعادة كانت ولا تزال وستبقى في إسرائيل ومع نتنياهو وحكومته الذين لن يوافقوا مطلقاً على مشروع الرئيس ترامب للحل النهائي "سابقاً لم يوافقوا على صفقة القرن الأولى بسبب وجود مصطلح دولة فلسطينية"، باعتبار ذلك لا يخدم لا التطلعات الشخصية للسيد نتنياهو، ولا التطلعات الأيديولوجية الأخرى.
العرب ومعهم إيران وتركيا، لن يعترضوا وسوف يتعاونون ما دامت شروطهم مقبولة، إيران تبحث عن اتفاق نووي يرفع العقوبات، والسعودية تبحث عن صفقات عسكرية واتفاق دفاعي مشترك ومفاعل نووي سلمي، في حين وقف الحرب على غزة ومسار التسوية للقضية الفلسطينية هو مقابل التطبيع، وتركيا تبحث عن دور ونفوذ في المنطقة يحقق لها مصالحها ضمن دائرة تقاسم النفوذ.
الآن الأمور تتضح، رغم أنها كانت واضحة لمن قرأ توجهات الرئيس ترامب والذي يبحث عن حلول نهائية وفرضها على جميع الأطراف بالقوة الناعمة أولاً قبل أي شيء آخر، والمشهد جاهز للعرض ومن يعطله فقط "نتنياهو"، ومن هنا حدثت القطيعة بين الرئيس ترامب ونتنياهو، أو بالعامية الرئيس ترامب "حردان" ودار وجهه عن صديقه نتنياهو.
إن الضجة الإعلامية ومحاولة تضخيم الخلافات بين الرئيس ترامب ونتنياهو وبالذات في دولة إسرائيل، يأتي في سياق الضغط إما لدفع نتنياهو للموافقة وأجزم أن هذا مستبعد في الحالة الراهنة، أو للدفع لإسقاط نتنياهو وحكومته أي إحداث تغيير في المشهد السياسي الداخلي الإسرائيلي، ومن سيتصدر ذلك هي الأحزاب الحريدية "حزبي شاس ويهود هتوراة"، لماذا؟ لأن استمرار الحروب سوف تدفع وتعجل التجنيد الإجباري للحريديم تحت عنوان توزيع الأعباء، لكن وقفها سيؤخر من ذلك بعض الشيء وقد يكون ذلك ضمن صفقة مع المعارضة بضغط أميركي، وبحيث يحدث توافق بين الحريديم وبين الصاعد "بينت" والطامح "غانتس".
الأيام القادمة ستظهر بوضوح إذا ما كان نتنياهو سيخفض رأسه للعاصفة القادمة وتحت عنوان المناورة لكسب الوقت "التلاعب الذي يكرهه الرئيس ترامب والذي كان سبباً في القطيعة"، أو الرفض المباشر وهذا ما صرح به نتنياهو عندما تحدث عن "الدفاع عن النفس منفرداً"، أي أن خططه لا تزال هي مشروعه القائم.
استعجال الرئيس ترامب للإعلان عن مشروعه سيشكل أداة ضغط كبيرة ضد نتنياهو، لكن لن يرافق ذلك عقوبات أو تخلي عن إسرائيل، بل ستبقى أمريكا تدافع عن إسرائيل، لذلك نحن في مرحلة خطرة جداً قد تدفع نتنياهو نحو الهروب للأمام واستدعاء حرب أخرى مع إيران، إضافة إلى تنفيذ الخطط الخاصة بقطاع غزة، ويبدو أن نقل الدبابات الجاري يوضح القادم.
بين واقعية الرئيس ترامب وبراغماتيته وطموحه في فرض السلام في العالم والحصول على جائزة نوبل للسلام، وأوهام نتنياهو تكمن كل القضية الآن، وبين الاستعجال في ما يريده الرئيس ترامب وما يريده نتنياهو، تقف الدبابات الإسرائيلي على تخوم غزة استعداداً لتنفذ خطة رئيس الأركان إيال زمير.
لحظات الحقيقة تتسارع ومعها لحظات التصعيد وقلب الطاولة على مشروع الرئيس ترامب، والعنوان القادم بعد أو مع "غزة" هي "إيران"، خاصة أنه مهما فعل نتنياهو حتى لو قام بتوجيه ضربة منفردة لها، فأميركا لن تتخلى عن إسرائيل، فهناك روحها وإكسير حياتها.
التعليقات