کثيرا ماکان عمي الراحل (وکان زميل دراسة و صديق للرئيس العراقي جلال الطالباني)، يقارن بين مساحة الديمقراطية المتاحة في فترة الحکم الملکي في العراق و الفترة التي تلتها من ما سمي ظلما بالنظام الجمهوري، وکان يروي شهاداته عن المعارضين المعتقلين السياسيين(وجلهم کانوا من الشيوعيين)، وکيف أنهم کانوا يلوحون بأياديهم المصفدة بالقيود وهم داخل سيارات الشرطة المکشوفة للمارة وان الناس کانت تصفق لهم کأبطال.

سقوط النظام الملکي الدستوري في العراق أثر إنقلاب 14 تموز الذي کان بمثابة البوابة التي دخلت منها زمر عسکرية أخرى وکل إنقلاب کان يسبغ على نفسه لقب الثورة من دون أن يقوم بأي تغيير يذکر سوى ترسيخ الحالة الاستثنائية و اللاشرعية الدستورية وفي أثناء ذلك کله کان الخاسر الاکبر هو الشعب العراقي الذي دفع فاتورة حساب فادحة عن المغامرات الطائشة لهؤلاء العسکر(الجهلة بأبجديات العمل السياسي)، واستمر الحال على هذه الوتيرة حتى إستلم حزب البعث وعن طريق إنقلاب 17 تموز 1968 الذي إستکمل بإنقلاب 30 من الشهر نفسه ليتم الالتفاف و التآمر على اولئك العسکريين الذي ساعدوا البعثيين للإطاحة بالرئيس(غير الشرعي)للعراق عبدالرحمن عارف وبعدها، بدأت فترة فکرية ـ سياسية ـ أمنية من تأريخ العراق المعاصر حيث عاش العراقيون مجددا عهد الحجاج ابن يوسف الثقفي ولکن بصورة أکثر بشاعة و قسوة و دموية، وبسقوط النظام الملکي، اختفى و الى الابد ذلك المشهد البطولي للمعتقل السياسي و هو يلوح بيديه المصفدتين تحية للجماهير وبدأت فترة مظلمة لم يعد بوسع الانسان العراقي أن يجرؤ ولو مجرد النظر الى ثمة شخص تقبض عليه الاجهزة الامنية العراقية، بل وان مشاهد إلقاء القبض و إقتياد الناس کانت تتم بصور بالغة الدقة من الناحية البوليسية.

طوال حکم البعث العراقي الذي أستمر 35 عاما، کانت الاوضاع الاستثنائية تهيمن على العراق و کانت الاجواء البوليسية و الاستخبارية تخيم ليس على المجتمع وانما حتى على العائلة العراقية ذاتها وباتت العائلة العراقية و تحت سياط و نير الاستبداد و الدکتاتورية تفقد الکثير من قيمها و مثلها الجميلة و طفق التشويه و التفتت يجد طريقه الى هذه العائلة وهو امر جنى الشعب العراقي ثمارهquot;المرة جداquot;بعد سقوط النظام البعثي في التاسع من نيسان عام 200.

لم يکن هنالك في عراق البعث شئ اسمه المعارضة أو الاختلاف الفکري، کان النظام بنفسه(هو الخصم و الحکم)، وکان کل مايسمعه المواطن أو يقرأه من أجهزة الاعلام البعثية الموجهة اساسا بشکل مبرمج، يمثل الحقيقة الوحيدة التي يجب على کل عراقي شاء أم أبى أن يصدقها، رغم ان العراقيين بفطرتهم و تلقائيتهم، کانوا يعلمون جيدا کم هو ماهر و متمرس هذا النظام في فنquot;جزارة الشعبquot; وکان الجميع يدرکون ان أي سباحة ضد تيار البعث ستؤدي في نهاية الامر الى القبر!

في ظل النظام السابق، لم يکن العرب يسمعون غير الذي يشائه و يرتأيه النظام(والذي کان يعني صدام نفسه!)، ولم يکن هناك أي صوت آخر يعلى فوق صوت القائد quot;الضرورةquot;، ومن هنا، فإنه يبدو أن الامة العربية قد جذلت و طربت لکذب و دجل و أفاقية هذا النظام المتمرس في الجريمة المنظمة وباتت ترى فيه نموذجا مثاليا للمقارعة في وقت کان يسعى أثناء فترة الحصار التي مرت على العراق بسبب من سياساته الرعناء الطائشة، و بکل جهده و عبر قنوات متعددة من أجل الاتفاق مع اسرائيل على إسکان الفلسطينيين في جنوب العراق مقابل رفع الحصار عنه! وقطعا أن سعي النظام لإسکان الفلسطينيينquot;السنةquot;في الجنوب العراقيquot;الشيعيquot; وقد تسربت وثائق خاصة بشأن الاتصالات البعثية ـ الاسرائيلية وقتها الى العديد من الدوائر الاستخبارية وعلى رأسها الاطلاعات الايرانية و الميت الترکية، کان في الاساس فکرة بعثية خبيثة تشابه تلك التي طبقها في کرکوك والتي هي أساسا صورة طبق الاصل من فکرة المستوطنات الاسرائيلية حيث زرع کرکوك الکوردية ـ الترکمانية بمستوطنين عرب قدموا من الجنوب العراقي مقابل إغرائات مادية هدفها النهائي کان إجراء عملية تغيير ديموغرافية في کرکوك کما انه قد قدم الکثير من المشاريع و الاقتراحات الانبطاحية للولايات المتحدة الامريکية على أمل منحه فرصة البقاء و التي قد بزت ذلك التنازل الذي قدمه لشاه إيران و أعطاه نصفquot;شط العربquot;، لکن الامريکان لم يضعوا أي خيار أمام صدام حسين سوى التخلي عن السلطة و من هنا لم يکن أمام صدام حسين من طريق سوى المضي قدما في حربه الخاسرة و جلبه تلك الکارثة على رأس الشعب العراقي.

ان العديد من الاصواتquot;المشبوهةquot;التي باتت تتعالى هنا و هناك، وتتخذ من عدة قضايا و احداث سياسية و إقتصادية و إجتماعية في عراق مابعد الدکتاتور الراحل طريقا و وسيلة لبلوغ أهداف خبيثة يختبأ خلفها رموز البعث المنهار أو من لف لفهم، کتلك المصاحف التي رفعت في حرب صفين، على أمل إعادة عجلات التأريخ الى الخلف و تسليم العراق مجددا الى حزب العصابات و الجريمة المنظمة، کما حدث مع قضية ذلك الصحفي العراقي الذي فضل أن يستبدل قلمه و کلمته بفردتي حذاء، هذا الصحفي الذي لو لم تکن ديمقراطية أمريکا التي أتاحتها للعراقيين، لما کان بإمکانه أن يکون شيئا طوال حياته. ان الحقيقة الاهم، هي أن العراق و برغم کل السلبيات التي يعاني منها، فهو الافضل من ناحية إتاحة حرية التعبير من کافة البلاد العربية ولو ترکتهquot;الايادي المشبوهةquot;وخصوصا جمهورية المعممين في إيران و دول إقليمية أخرى، وشأنه، فإنه سيحقق مستقبلا سياسيا و إقتصاديا و إجتماعيا أفضل للشعب العراقي.

اليوم، حيث نرى البعث الذي کان يذيق الشعب العراقي الامرين من إستبداده و ظلمه و قهره، قد بات محشورا في الزوايا المظلمة و الجحور النتنة و يسعى من خلال العديد من القضايا و الاحداث التي يجهد لتجييرها لصالحه ومن خلال جرائمه المختلفة تحت يافطة المقاومة أن يعيد الاعتبار لنفسه وهو أمر محال قطعا وليس يصدق به سوى المجانين أو الذين لديهم مشکلة في الاستيعاب، حيث أن غالبية الشعب العراقي قد حسمت أمرها مع هذا الحزب الارعن الموغل في الجريمة وليس هناك من طريق أمام هذا الحزب سوى إعادة تأهيل نفسه و أفکارهquot;الاجراميةquot;و الاقرار بما أرتکبه في الماضي من جرائم و ويلات بحق الشعب العراقي وطلب الاعتذار منه وبغير ذلك ليس للبعث سوى الجحور و الدياجير النتنة!