عبد الخالق همدرد: عندما هبطت على تراب المملكة العربية السعودية لأول مرة الشهر الماضي، كنت أفكر في كيفية قضاء أيام العمرة وهي مدة أسبوعين؛ لأنني لم أكن أعرف أحدا هناك. وعندما دخلنا بناية المطار، بدأ أحد الموظفين يوقف الناس في طوابير وكان ينطق ببضعة كلمات من كل من العربية والإنجليزية والأردية. فوقفنا في طابور لإجراءات الجواز؛ إلا أن مؤظف الجوازات كان يعمل وينعس لأن الوقت كان متأخرا من الليل. ومن المعروف أن مطار جدة من أهم المطارات الدولية وبناء عليه كان الزحام شديدا.

كان أول احتكاك على المطار بعامل تنظيف بنغلاديشي يكنس الأرض ويحاول بيع شرائح الجوالات. أول الأمر تعجبت من ذلك؛ لأن الشرائح في باكستان لا تباع إلا بعد إجراءات مشددة وتقديم أصل الهوية. والحكومة تبرر لذلك بأنها تعمل ذلك تفاديا لإساءة استخدام الشرائح. طال الانتظار في الطابور فقررت أن أشتري شريحة لأصبح على علاقة مع العالم. جاء البنغلاديشي وقال الشريحة بسبعين ريالا وفيها سبعون ريالا وكان صادقا في كلامه. أخيرا بعد ساعتين ختم الموظف جوازي فتوجهت نحو الباب وإذا بموظف آخر يطلب الجواز ويعطيه لموظف آخر وفي نهاية المطاف أخذ شاب الجواز إلى غرفة صغيرة خارج المطار وأخذ منه صورة فرده إلي.

هذه مدينة جدة ونحن في الثلث الأخير من الليل؛ لكن لا فرق بين النهار والليل هنا بسبب الزحام الشديد والأنوار التي تنير أرجاء المطار والمواقف خارجه. وكان في ذهني أنني سأواجه مجتمعا عربيا وسأضطر إلى التحدث بالعربية في كل مكان؛ إلا أن الأمر كان مختلفا تماما؛ لأنني وجدت عددا كبيرا من الباكستانيين والهنود والبنغلاديشيين وكلهم يتفاهمون باللغة الأردية. كما وأن المواطنين أيضا يتلهجون ببعض الكلمات بالأردية. وبعد انتظار دام لنحو من ساعة تمكنت من مغادرة المطار على متن سيارة أجرة يسوقها مواطن باكستاني مع راكبين هنديين. طبعا كان المنظر مدهشا لأن الطرق كانت واسعة ونظيفة والسيارات تسير بسرعة فائقة.

بدأ أحد الراكبين الحديث مع السائق وأخذ يعلق على الوضع السياسي في باكستان فقال quot;والله إن باكستان لقادرة على أن تكون رائدة للعالم الإسلامي بأسره؛ لأنها دولة نووية ولا ينقصها أي شيء من الموارد الطبيعية والأراضي الخصبة والعقول البشرية والأيدي العاملة؛ لكن مع الأسف الشديد مشكلتها تتمثل في قيادتها السارقة. وقد شهدت قلاقل سياسية منذ تأسيسها ولا تزال في تلك الحالةquot;. هذه كانت رؤية مواطن هندي للقيادة الباكستانية؛ لكن لم يمكن لي رفض كلامه مبررا بكونه هنديا؛ لأن الباكستانيين أيضا يرون إلى القيادة بنفس النظرة.

وعندما طال كلام الهندي، حاولت تغيير مسار الحديث فسألت السائق عن كيفية عيشه في المملكة العربية السعودية. وعندها بدأ السائق حديثه بأنه يعمل في المملكة منذ خمس عشرة سنة ويسوق السيارة ووضعه جيد. وختم حديثه قائلا quot;والله إن العيش في المملكة لا مثيل له في أي مكان من العالم شريطة أن يعيش الشخص هنا بطريق قانوني ويعمل بطريق قانونيquot;. وأضاف أن المملكة بلاد الأمن والسلام ويمكن لك أن تسافر إلى أي مكان في أي وقت من الليل والنهار بدون أن ينتابك أي خوف.

كنت في طريقي إلى مكة المكرمة والساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. نزلنا من سيارة الباكستاني وركبنا سيارة أخرى. هذه المرة كان السائق شابا سعوديا يلبس الملابس الإفرنجية. وبدا طول الطريق وكأنه في عالم آخر خارج عالم ركاب سيارته. حاولت الحديث معه؛ لكنه كان شحيحا في استهلاك الكلمات فإما يهز رأسه بدون أي تفكير أو يرد بكلمة أو كلمتين. وقف في الطريق على إحدى محطات البنزين. فتذكرت غلاء أسعار الوقود في باكستان. فسألت الشاب بكم اللتر من البنزين في المملكة؟ وكان رده مدهشا إذ قال quot;والله لا أعرفquot; فقضيت العجب من حديثه، يسوق سيارة أجرة ولا يعرف سعر الوقود! وازدادت دهشتي عندما نظرت إلى عقرب العداد وهي تتحرك بين 170 و180 كيلو مترا. طبعا هذه السرعة خارج نطاق التفكير في باكستان؛ لأن أقصى سرعة السيارات على الطرق السريعة في باكستان 120 كيلو مترا لا أكثر، في حين السرعة المسموحة على الطرق العادية تتراوح بين 40 إلى 100 كيلو متر. وهذا الأمر قد يكون سبب ممارسة الشباب السعودي هواية quot;التفحيطquot;.

مع طلوع الفجر من اليوم الثاني بعد وصولي إلى مكة المكرمة كنت انتهيت من مناسك العمرة.- ولا يسعني ذكر تفاصيل الزائر لبيت الله لأول مرة. ولنؤجل ذكر هذه التجربة الروحية لوقت آخر-. وعندما خرجت إلى السوق لم يبد لي أنني في مدينة عربية؛ لأن معظم أصحاب المحلات من الباكستانيين أو البنغاليين والبرماويين وكثير منهم يلبسون الملابس الباكستانية ويتحدثون اللغة الأردية وأضف إلى ذلك أن الباكستانيين إذا عرفوا أحدا بملامحه أنه باكستاني، لا يحجمون من مخاطبته باللغة البنجابية أيضا. كما وأنه قلما تجد أحدا في المطاعم التي تبيع الوجبات السريعة يتحدث بالعربية. ولا تستثي الأسواق الكبيرة أيضا من هذا الوضع، اللهم إلا محلات الذهب والمجوهرات حول الحرم المكي؛ فإن معظم أصحابها مواطنون سعوديون، رغم أنها أيضا لا تخلو من العاملين من الجنسيات المذكورة أعلاه.

ونفس تجربة اللغة تكررت في المدينة المنورة، بل وإن عدد الباكستانيين بدا هناك أكثر مقارنة بمكة المكرمة. وقد أخذني بعض أصدقائي إلى مطعم باكستاني يبيع كل شيء مثل ما يحدث في باكستان وفي كثير من الأحيان بدا لي وكأنني في مدينة باكستانية، حتى وإنك لو تحاول التحدث بالعربية مع أصحاب المحلات، إنهم يجيبونك بالأردية. وقد ذُكر لي أن المناطق القريبة من الحرمين الشريفين معظم سكانها من الأجانب من الجنسيات المختلفة ولاسيما الباكستانيين والهنود والبخاريين. وكثير منهم قد حصلوا على الجنسية السعودية، بينما السعوديون يسكنون المناطق البعيدة. أضف إلى ذلك أن المناطق حول الحرمين أصبحت تجارية أكثر من كونها سكنية. وبناء عليه فإن الكثير باعوا عقاراتهم بأثمان غالية ليعيشوا في مناطق أخرى. ويقول أحد المدنيين أن العقارات حول الحرم المدني أغلى العقارات على المستوى الدولي.

ومن المعروف أن الدول الخليجية ولاسيما المملكة العربية السعودية بها عدد كبير من العمالة الخارجية. ولعل الباكستانيين يشكلون أكبر جالية أجنبية في المملكة إذ يزيد عددهم على المليون نسمة ويليهم الهنود. وبناء عليه فإن المؤسسة التي تصدر جريدة quot; سعودي جازيتquot;، تصدر جريدة quot; أردو نيوزquot; بالأردية و quot;مليالم نيوزquot; باللغة المليبارية التي ينطق بها سكان ولاية كيرالة الهندية الجنوبية. وقد أعجبتني quot; أردو نيوزquot;؛ لأنها بدت جريدة باكستانية بالمرة.

وقد شاهدت خلال تنقلاتي بين مدينة جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة أن البنية التحتية في المملكة ممتازة. وقد قرأت في أحد التقارير أن بعض الطرق في المملكة أجود من الطرق في الولايات المتحدة أيضا. أما الوضع في باكستان على هذا الصعيد، فإنه داع للأسف في كثير من الأحيان؛ لأن الطرق التي تبنى بالمبالغ الهائلة، تنجرف مع أول مطر ينزل بعد إنجاز المشروع. وبناء عليه تبدأ عملية الصيانة في وقت مبكر جدا. ويرى المواطنون أن الحكومة قد تكون تصدر مناقصات الصيانة مع مناقصات البناء. وكل ذلك لإفادة جهة أو أخرى.

ويقارن أحد المقيمين بالسعودية هذا الوضع ويقول إن الأمور في باكستان تتمحور حول العمولة والإثرة والرشوة؛ لكن هذه الأمور لا توجد هنا في السعودية؛ لأن الحكومة واحدة وهي تستمر في مشاريعها دون أن يعرقلها أحد ولا يتصور الحصول على مقاولة بتقديم الرشوة. كما وأن الرقابة الشديدة لا تدع فرصة للمقاولين ليستخدموا موادا ناقصة في إنشاء الطرق. والنتيجة ما تراها على الأرض.

ومن الغريب أنه لا يوجد النقل العام للتنقل داخل المدينة المنورة. وهذا الأمر لا يتصور في أي مدينة باكستانية تكون صغيرة أو كبيرة. وبالتالي فإنك تضطر لاستخدام سيارات الأجرة التي تكون من جميع الأنواع الفاخرة وليست كالسيارات القديمة البالية في باكستان. وشرح لي أحد الأصدقاء الوضع قائلا، إن كل سعودي لديه أكثر من سيارة وحتى في كثير من الأحيان يملك كل فرد من الأسرة سيارة له. فلا حاجة إلى النقل العام. والصعوبة تكون للمقيمين الذين لا يملكون السيارات. ومن المعروف أن المقيمين هم العاملون ودخلهم محدود والتنقل بسيارات الأجرة يكلفهم أكثر مقارنة بالنقل العام.

والأغرب من هذا أن البنزين في المملكة، أرخص من ماء الشرب. ولعل ذلك بسبب وفرة البترول وشح المياه الصالحة للشرب. والأكثر غرابة من ذلك أنه لا يوجد في المناطق القريبة من الحرم المكي شبكات خطوط أنابيب الماء كما هو الحال في جميع المدن الباكستانية ومعظم المناطق الريفية والقرى، بل الصهاريج الكبيرة هي التي تؤمن المياه حسب الحاجة. وبناء عليه لا تجد ماء الشرب جاهزا على طاولات المطاعم بالمجان، بل يجب أن تشتري الماء المعبأ وهو 600 مل بريال واحد، بينما يباع اللتران من الوقود بريال واحد. وهذه مقارنة غريبة لأننا في باكستان نشرب الماء مجانا ونشتري اللتر الواحد من الوقود بـ 64 روبية أي نحو أكثر من ستة أضعاف لسعر الوقود في السعودية؛ لأن الريال الواحد يساوي نحو 22 روبية باكستانية.

وقد خرجنا إلى الزيارات في المدينة المنورة في سيارة لمواطن سعودي. فأخذنا إلى جبل أحد ومسجد القبلتين ومسجد قباء وسمح لنا بالنزول من السيارة، أما الخندق والمساجد السبعة، فأراناها من بعيد قائلا: هذه هي المساجد السبعة ولم يبق منها إلا مسجد واحد؛ لأن المساجد الستة الأخرى قد هدمت خلال بناء الجامع الكبير في سفح الجبل. طبعا الجامع فعلا كان كبيرا؛ لكننا لم نقدر على زيارته من الداخل؛ لأن السائق قال إن الزيارة السنة هي لهذه الأماكن، والأماكن الأخرى زيارتها بدعة.

ولا يختلف اثنان على أن الجوامع التي بنيت في هذه الأماكن هي كبيرة جدا وتلائم تلك المواقع؛ لكن الأمر الذي ينقصها هو عدم تواجد اللوحات الإرشادية التي تتضمن وصفا مختصرا لكل مكان؛ لأن الأمور قد تكون واضحة للمواطنين السعوديين فلا يحتاجون إلى تعريف تلك المواقع، لكن الوافدين والزوار من جميع أصقاع العالم لا يعرفون ذلك. وقد شاهدنا لوحات إرشادية عما يجوز وما لا يجوز أثناء زيارة القبور، خارج مقبرة الشهداء في أحد، بلغات عديدة؛ لكن لا توجد أي لوحة تتضمن أسماء الشهداء أو أي تفصيل عن معركة أحد أو لم نجدها نحن.

وكل من لقينا من المقيمين الباكستانيين أثنى على الوضع الأمني في المملكة وأكد أحد منهم وهو قد ولد في المدينة المنورة وقد عاد إليها بعد قضاء نحو عقد من الزمن في باكستان، أن المواطنين والمقيمين سواسية في عيون القوانين الجنائية ولا ينجو أحد من العقوبة بعد ارتكاب الجريمة والشرطة تجدها تساعدك في أي وقت تطلبها. وquot;الرشوةquot; لا يتخيل بها الشرطي العادي. وأضاف لعل هذا الأمر هو أكبر سبب في استقرار المملكة العربية السعودية. وقد ذكرني هذا الوضع بقول أحد الوفود الإيرانية للخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه: quot;أنصفتم فنمتم، وظلمنا فأرقناquot;.

ولو نقارن هذا الوضع بباكستان، نجد أن البلدين على طرفي نقيض؛ لأن الرشوة مستشرية في الدوائر الحكومية كدول العالم الثالث الأخرى. وقد أشار تقرير لمؤسسة الشفافية الدولية إلى أن الشرطة في باكستان احتلت الرقم الثاني بين الدوائر الرسمية الفاسدة. وقد شكلت باكستان منذ ثلاث سنوات شرطة مرور خاص بالعاصمة الباكستانية وقررت منحها ضعف راتب الشرطة العادية إلى جانب منحها 20% من الغرامات المالية التي يؤديها السائقون إلى الحكومة على المخالفات المرورية. وقد تمكنت هذه الشرطة من كسب ثقة الشعب إلى حد كبير. ويتمنى المواطنون أن يكون مثل هذه الشرطة في جميع المدن؛ لكن يعلق البعض عليها بأنها لا ترتشي بطريق مباشر لكنها تأخذها بطريق غير مباشر.

ويعاني بعض المقيمين في المملكة من سلوك الكفلاء، إذ إنهم يأخذون منهم مبالغ من المال حسب العقد؛ لكن يتعبون المكفولين خلال الإجراءات القانونية أو يبخسون حقوقهم أو يماطلون في أداء مستحقاتهم. وهذا ما يؤدي إلى توتر بين المقيم والكفيل وبعض الأحيان تحدث أمور لا تحبذ جراء ذلك. رغم ذلك يقول بعض المقيمين إن الحكومة السعودية تفكر في إلغاء نظام الكفالة وهي سوف تلغيه عاجلة أو آجلة كما فعلت مملكة البحرين؛ لأن يتسبب سلوك الكفيل بعض الأحيان يتسبب في تشويه صورة المملكة الناصعة وهو أمر لن يكون مقبولا لدى البلاد التي هي محط تقدير واحترام جميع المسلمين.

وقد لمسنا الضيافة السعودية والكرم أثناء أيام رمضان التي قضيناها في الحرمين. وكل من يحضر الحرمين وقت الإفطار لا حاجة به ليشتري شيئا استعدادا للإفطار؛ لأن سفرات الإفطار في كل مكان إضافة إلى الشاي والقهوة العربية. والناس يدعونك إلى سفراتهم لتكون ضيفا عليهم ويفرحون بذلك أي فرح.


وبعد انتهاء مدة إقامتي بالمملكة توجهت نحو مطار جدة الدولي وأنا أقارن بين الوضع في باكستان والمملكة العربية السعودية ولاسيما من الناحية الأمنية. ولم أشهد أي شرطي وهو يحمل السلاح في مكة المكرمة ولا المدينة المنورة ولا طول الطريق بين المدينتين، سوى جنديين على مدخل مطار جدة؛ لكن عندما خرجت من مطار إسلام آباد، أول ما واجهت كان شرطيا مدججا بالسلاح يسألني عن سبب دخولي من الباب، رغم أنني خرجت أمامه ورجعت مرة أخرى لنقل أمتعتي الأخرى. ووصلت إلى بيتي مارا بنقاط التفتيش والخنادق التي تطل منها البنادق ونقاط يقف عليها المغاوير بزيهم الأسود والجنود بزيهم المموه والشرطة بزيهم العادي.

طبعا افتقدت أمن المملكة وغمضت عيني لأحلم بأن تعود إسلام آباد خالية من كل هذه الإجراءات الأمنية، كما كانت قبل خمس سنين.