هناك حقائق لابد من الإشارة اليها قبل الكتابة عن العلمانية وعلاقة الدين بالدولة. الحقيقة الأولى هي أن أغلب الدول العربية تتجه نحو الديمقراطية، بالثورة أو بالإصلاحات، شائت الأنظمة والشعوب أم لم تشأ. فإن لم نذهب تلك الدول إلى الديمقراطية أتت الديمقراطية اليها بإعتبارها المشروع الجاهز الذي يلبي طموحات الشعوب بعد فشل مشروع النهضة العربية ومشروع الإسلام السياسي، المرتبطان بالقمع ومصادرة الحريات. إذن، هي خطوة بإتجاه الليبرالية في الحياة السياسية والتي ستعقبها بالتأكيد خطوات بإتجاه الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية. وعندما يكون الحديث عن الليبرالية لابد من طرح فكرة العلمانية فهي الإطار القانوني الضامن للحريات التي يتمتع بها الفرد في ضل تلك الحياة الليبرالية، كحرية الأديان، وحرية الضمير، وحرية التعبير.
أن الأحداث والتحولات التي تمر بها المنطقة العربية جعلت سؤال الدين والدولة يطرح من جديد. ماهي علاقة الدين بالدولة، على إعتبار أن أغلب الشعوب العربية متدينة؟ فالذي يجعل هذا السؤال حيويا ً هو الحقيقة الثانية وهي أن مشروع الدولة الدينية صار أبعد مايكون عن الحقيقة منه إلى الخيال بعد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924 على يد أتاتورك. فلا نموذج الدولة الدينية في إيران ولا في السودان كان جاذبا ً لمفكري الإسلام السياسي كبديل للعلمانية الغربية بعد نشوء نموذج الدولة الحديثة في أغلب بلدان العالم العربي، لذلك صارت البلدان العربية الآن أكثر قبولاً وإستعدادا ً لقبول فكرة الديمقراطية. إذن، لابد من طرح فكرة العلمانية وعلاقة الدين بالدولة في هذا الوقت بالذات بإعتبارها الضامن للحريات الفردية، وحقوق الأقليات بإتجاه بناء الدولة المدنية على الأسس الديمقراطية.
ولكن، ماهي العلمانية، وماهي غايتها؟ العلمانية ببساطة هي فصل الدين عن الدولة، كما يقول الباحث طلال أسد، وهذا لايعني أن العلمانية هي رفض الدين أو المساس به، بل الأصح تحيده من خلال فصل كل ماهو ديني عن مؤسسات الدولة، كما يقول أوليفر روي. هنا لابد من الإشارة بأن العلمانية ليست فصل الدين عن السياسة والذي يعتبر خطأ يقع به الكثيرون. ففصل الدين عن السياسة كان ومازال غامضا ً في أكثر الدول تطرفا ً في تطبيق العلمانية، حتى أن الرئيس الأمريكي ورئيس المحكمة العليا في أمريكا يفتتح جلساته بأسم الإله، وأن هناك الكثير من الأحزاب المسيحية الفاعلة في الحياة السياسية في أغلب الدول العلمانية، وفكرة إنشاء حزب إسلامي في برايطانيا والمانيا مازالت قائمة ولاتتعارض مع دستور البلاد إذا مالتزمت بمبادئ الديمقراطية. إلا أن هناك أكثر من شكل للعلمانية وتفاوت في تطبيقها.
فهناك العلمانية الفرنسية والتركية المتشددة (Laiuml;citeacute;) والتي تهدف إلى فصل الدين عن المجتمع وإعتماد القانون القائم على أسس عقلية بحتة تستمد جذورها من فلسفة عصر الأنوار. فالرموز الدينية في فرنسا محظورة في الأماكن العامة الرسمية كالجامعات وباقي مؤسسات الدولة. أن العلمانية الفرنسية والاتتوركية تقوم على الفصل الصارم بين الدين والمجتمع، وذلك من خلال الفصل الصارم بين كل ماهو خاص وماهو عام. فالدولة قائمة فقط على الحقوق والواجبات الفردية، بعيدا ً عن روح المشاركة وهو ماتتمتع به الديمقراطية الأشتراكية بحفظ حقوق الأقليات السياسية والثقافية والذي يعيد صياغة كل ماهو عام وخاص بعيدا ً عن الصرامة، في تداخل ثقافي.
أما العلمانية (secularism)، على رأي روي، الأكثر تسامحا ً، فهي تدعو لفصل الدين عن الدولة، بمعنى ليس حماية الدولة من الدين فحسب، بل لحماية الدين من الدولة. وغاية ذلك النمط من العلمانية هو للوصول إلى الحد الأدنى من توافق الآراء بين الأطراف المختلفة لخلق أخلاق سياسية موحدة بين المتدينين وغير المتدينين، على حد قول جارلس تايلير، أو الحد الأدنى من التوافق على حد قول جون رولز بين المجموعات المختلفة المصالح. وهنا لابد من فصل الدين عن مؤسسات الدولة التي يجب أن تكون حيادية، وذلك لأن الدين هنا يشبه الأيدلوجيا كثيرا ً حيث يستمد الدين أدواته وأفكاره من مرجعية غيبية ميتافيزيقية، بينما تستمد الايدلوجيا مرجعيتها من عقيدة تعتبرها حقيقة مطلقة، والذي يوقعهما في فخ الدوغما والأصولية. فالوصول إلى المصلحة العامة للمجتمع يعتمد على المشاركة في الفضاء العاام، بشكل متسوي، من أجل النقاش والتداول وتبادل الأفكار والآراء المختلفة المستندة للإقناع العقلي في عملية التواصل التفاعلي، على حد قول يورغين هابيرماس.
أذن، يمكن حصر التفاوت في النظم العلمانية بنوعين وهما: العلمانية التي تريد فصل الدين عن المجتمع، والعلمانية التي تريد فصل الدين عن الدولة. في المقالة المقبلة سيكون الحديث عن الإسلام والعلمانية، وذلك بعد وضع الإطار النظري الذي سوف أنطلق منه، بالخصوص من المعنى الثاني للعلمانية.
- آخر تحديث :
التعليقات