هناك مخاطر كثيرة تواجه المنطقة العربية حاليا. لم يعد في الامكان الحديث باي شكل عن عالم عربي موحّد ولو في الحدود الدنيا. هناك عوالم عربية منفصل كلّ منها عن الاخر. ربما كان التجمع العربي الوحيد الذي ما زال يستطيع الخروج بمواقف موحدة هو مجلس التعاون لدول الخليج العربية. يحاول المجلس في هذه الايام التكلّم بصوت واحد من جهة وادخال بعض المنطق الى عالم اللامنطق الذي يمثّله النظام السوري من جهة اخرى. يفعل المجلس ذلك على الرغم من التحديات الضخمة التي تواجهه، في مقدمها السياسة الايرانية القائمة على نظرية القوة الاقليمية المهيمنة بفضل الشحن المذهبي... وهي نظرية اقرب الى الوهم من ايّ شيء آخر في غياب الاقتصاد القوي المبني على قواعد راسخة وليس على تصدير النفط ولا شيء آخر غير النفط!
ما يفعله مجلس التعاون الذي يدفع في اتجاه ايجاد مخرج يؤدي الى وضع حدّ للماساة السورية يمثل عين العقل نظرا الى ان غياب المخرج سيشرّع الابواب امام حرب اهلية تقضي على وحدة البلد، مع ما لذلك من انعكاسات على المنطقة ككلّ في ظلّ انفلات الغرائز المذهبية.
بكلام اوضح، نحن امام استعادة تجربة يوغوسلافيا في سوريا. تبين بعد سنوات قليلة من وفاة جوزف بروز تيتو ان يوغوسلافيا ليست قابلة للحياة وانها مجرد كيان مصطنع استطاع رجل قوي توحيده لفترة قصيرة مستفيدا من هامش للمناورة في ظلّ الحرب الباردة والتنافس بين القوتين العظمتين بعد الحرب العالمية الثانية.
توفّي تيتو في العام 1980 وفي السنة 1992 لم يعد من وجود ليوغوسلافيا الموحدة التي صارت دولا عدة... ولكن ليس من دون سلسلة من المجازر وعمليات التطهير العرقي التي تثير الاشمئزاز.
تشبه المرحلة التي تعيشها سوريا حاليا مرحلة بداية تفكك يوغوسلافيا بعد عقد من وفاة تيتو. صمدت يوغوسلافيا عقدا. المفارقة ان الاحداث الخطيرة التي تشهدها سوريا بدأت في آذار- مارس من العام 2011، اي بعد اقلّ من احد عشر سنة على وفاة الرئيس حافظ الاسد. وهي مستمرة منذ احد عشر شهرا. اكثر من ذلك، ان الاحداث السورية تقترب يوميا من التحوّل الى حرب اهلية بكل معنى الكلمة، خصوصا في ضوء العمليات العسكرية التي تستهدف حمص والمنطقة المحيطة بها وحماة وريف دمشق وادلب ودير الزور وجسر الشغور...
من حق دول مجلس التعاون دقّ ناقوس الخطر. المشكلة ليست في بقاء سوريا موحدة ام لا. المشكلة في ما يمكن ان يتعرّض له هذا البلد الذي يسعى النظام فيه الى البقاء في السلطة بايّ ثمن كان، اضافة الى المنطقة المحيطة به.
يتمسّك النظام بالسلطة غير آبه بانّ ليس في الامكان في اي شكل اصلاحه وان البديل من رحيل الرئيس بشّار الاسد، في اسرع ما يمكن، حروب ذات طابع مذهبي للاسف الشديد تقضي على الاخضر واليابس في هذا البلد العربي المهم الذي عانى منذ الاستقلال من ازمتي كيان ونظام في الوقت ذاته. هربت سوريا الى الانقلابات العسكرية ثم الى الوحدة مع مصر ثم الى حكم الحزب الواحد، اي الاجهزة الامنية ولا شيء غير ذلك. انتهى حكم الحزب الواحد بان صار حكم الطائفة الواحدة قبل ان يتحول الى حكم العائلة الواحدة...
من حسن الحظ ان هناك مجموعة عربية تفكّر في حماية امنها اوّلا وفي كيفية تفادي الحروب الاهلية في سوريا. ليست دول مجلس التعاون وحدها التي تسعى الى ذلك. هناك دولتان عربيتان مهمتان هما المغرب والاردن تساهمان في لملمة الوضع السوري. هاتان الدولتان اللتان اقامتا علاقات مميّزة مع دول مجلس التعاون تساعدان الى حدّ ما، اي قدر الامكان، في سد الفجوات القائمة على الصعيد الاقليمي. على راس هذه الفجوات الغياب المصري والحالة العراقية التي يصعب ايجاد وصف لها في ظلّ التغلغل الايراني في البلد والفلتان الامني والغرائز المذهبية والعرقية...
لا شكّ ان مهمّة اعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية ليست سهلة. لكنّ لا خيار آخر امام هذا المجلس سوى السعي الى تفادي تحوّل سوريا الى يوغوسلافيا اخرى. في النهاية ان المحافظة على سوريا الموحدة في ظلّ نظام ديموقراطي مصلحة عربية وخليجية، خصوصا ان اي نظام جديد في سوريا سيجد نفسه مجبرا على اتباع نهج طبيعي يقوم على محاربة فكرة تحكم اقلية تنتمي الى عائلة معيّنة بالاكثرية الساحقة من الشعب السوري وبثروات البلد تحت شعارات طنانة من نوع quot;الممانعةquot; وquot;المقاومةquot;. تستخدم هذه الشعارات لتغطية الظلم الذي يتعرّض له الشعب السوري وتبرير سياسة الابتزاز التي تمارس على صعيد التعاطي الدول العربية الاخرى على راسها لبنان.
هل ينجح ما بقي من عرب في تفادي تكرار التجربة اليوغوسلافية في سوريا؟ انه السؤال الكبير في ظل المعطيات المتوافرة عن تطور الاحداث في البلد. في النهاية، لا مشكلة في قيام دول عدة في سوريا على غرار ما حصل في يوغوسلافيا. المشكلة في كيفية تشكيل هذه الدول من دون حمامات دم. في يوغوسلافيا، كان الطلاق بين الصرب والكروات واهل البوسنة طبيعيا في غياب تيتو. ما لم يكن طبيعيا هو تلك الحروب التي تميّزت بوحشيتها والتي كان البلد، الذي اراد في مرحلة ما اعطاء دروس للعالم عن طريق تاسيس حركة عدم الانحياز، في غنى عنها.
ليست يوغوسلافيا وحدها التي تاثرت بالحروب الداخلية، بل كل منطقة البلقان. الخوف كلّ الخوف ان لا تقتصر الاحداث السورية على سوريا، خصوصا ان الغرائز المذهبية والعرقية لم تعد تجد من يضع حدا لها. من يحتاج الى دليل على ذلك يستطيع القاء نظرة على ما يدور في العراق او ما شهدته مدينة طرابلس اللبنانية قبل ايام قليلة...