هناك استفاقة عربية على ما يجري في سوريا. هل هي كافية؟ وحده مرور الوقت كفيل بتوفير الجواب الشافي عن سؤال من هذا النوع. الامر الوحيد الاكيد ان الاستفاقة جاءت متأخرة. ولكن كما يقول المثل الفرنسي: ان تأتي الامور متأخّرة افضل من ان لا تأتي ابدا.
في كلّ الاحوال، كشفت الازمة العميقة التي يعاني منها النظام السوري امرين. اولهما ان العرب كانوا دائما مقصّرين في اتخاذ موقف من نظام لم يعمل سوى على ابتزازهم وعلى تدمير بلد اسمه لبنان وضرب صيغة العيش المشترك فيه... وعلى منع اي تسوية يمكن ان يتوصل اليها الفلسطينيون مع اسرائيل.
لم يكن لدى اسرائيل يوما اي اعتراض على هذا التوجه. على العكس من ذلك، شجعت دائما انغماس الفلسطينيين، بفضل النظام السوري اوّلا، في الحروب اللبنانية واغراقهم في المستنقع اللبناني نظرا الى ان ذلك يبعدهم عن خدمة قضيتهم من جهة ويضعهم تحت هيمنة دمشق من جهة اخرى. الم يكن شعار السياسة السورية الذي رفعه الراحل حافظ الاسد في كلّ وقت quot;انّ القرار الفلسطيني المستقل بدعةquot; وان quot;فلسطين جنوب سورياquot;؟
المؤسف ان الفلسطينيين في معظمهم لعبوا، بسبب قصر نظرهم، لعبة النظام السوري في معظم الاحيان وارتضوا ان يكونوا تحت هيمنته. لم يتمكنوا من ممارسة سياسة مستقلة الاّ بعد فوات الاوان وذلك بعد خروجهم من لبنان وشعورهم بانّ العالم ليس شوارع بيروت وازقتها او جمهورية الفاكهاني( حيّ في بيروت) وان الطريق الى فلسطين لا تمرّ لا بالعاصمة اللبنانية ولا بجونيه ولا بعمّان ولا بايّ عاصمة او مدينة عربية اخرى او بقلب هذا النظام العربي او ذاك...
اما الامر الثاني الذي كشفته الازمة التي يعاني منها النظام السوري فهي تتمثل في ان الكيان السوري نفسه غير قابل للحياة في غياب دولة مدنية تتصرّف بشكل طبيعي. يفترض بالقيمين على مثل هذه الدولة ان يأخذوا في الاعتبار ان البلد مليء بالمشاكل وانّ ليس في استطاعته الهرب منها باستمرار تحت لافتة كبيرة اسمها الدور الاقليمي لسوريا. هذا الدور اقرب الى الوهم من اي شيء آخر. الدليل على ذلك ان النظام السوري الذي يعتبر نفسه مالك كل الاوراق في المنطقة انتهى تحت رحمة النظام الايراني في لبنان. لولا ايران والميليشيا المذهبية التي شكلتها في لبنان، لما كان في استطاعة النظام السوري الاتيان في السنة 2011 بحكومة موالية له تتخذ مواقف سخيفة مثل ذلك الموقف الذي اتخذته وزارة الخارجية من البيان الصادر عن وزراء الخارجية العرب من الوضع السوري. انه موقف يكشف بكل بساطة عجزا مكشوفا عن فهم ما يدور حقيقة في سوريا او تعاميا عن ذلك من جهة فضلا عن انه يسيء الى كل لبناني وعربي شريف يمتلك حدّا ادنى من الشعور الانساني ويرفض في الوقت ذاته ان يكون تابعا للنظامين الايراني والسوري من جهة اخرى.
يكمن الامل بمستقبل افضل لسوريا والسوريين في العودة الى الديموقراطية والى دولة مدنية طبيعية تجري فيها انتخابات نيابية ورئاسية حقيقية بديلا من دولة الحزب الواحد. هذه الدولة التي تحولت شيئا فشيئا الى دولة العائلة الواحدة التي تتحكم بمصائر السوريين ومستقبل اولادهم. هذا هو الامل الوحيد لسوريا التي كشفت الثورة التي تشهدها انها تمتلك شعبا حيّا يرفض العبودية والذلّ وسيتخلّص من نيرهما عاجلا ام آجلا.
هذا الشعب لم تعد تنطلي عليه الشعارات الكاذبة من نوع quot;المقاومةquot; وquot;الممانعةquot;. هذا الشعب يدرك انه يحق له رفع شعار quot;سوريا اوّلاquot; لانه يعرف ان كل ما فعله حكامه منذ الانقلاب العسكري الاول الذي قاده حسني الزعيم في العام 1949 استهدف الغاء المواطن تمهيدا لالغاء الوطن.
استفاق العرب اخيرا على ما يجري في سوريا لانّ المواطن السوري استفاق على ذلك. اثبت هذا المواطن ان لا شيء يوقف ثورته وانه يرفض العيش في دولة هربت في العام 1949 الى الانقلابات العسكرية وفي العام 1958 الى وحدة مصطنعة مع مصر لا تمتلك ايا من مقومات النجاح وفي العام 1963 الى سخافة البعث بكل ما يمثله من تخلف وصولا الى حكم العائلة القائم على الغاء الآخر. لم يستطع هذا الحكم ممارسة اي نوع من انواع السياسات البناءة. لم يكن قادرا حتى على الاستفادة من السوريين بما يمثلونه من ثروة انسانية. اضطر كل سوري له معنى العيش خارج سوريا من اجل المحافظة على كرامته اوّلا.
يجدر بنا نحن اللبنانيين الاعتراف بما قدمه السوريون الهاربون من النظام الظالم للبنان ومدى مساهمتهم في نهضة الوطن الصغير الذين اصبحوا جزءا لا يتجزأ منه. لكننا لا نستطيع في الوقت نفسه ان ننسى ما فعله النظام السوري بلبنان بعدما اعتبر ان همّه الاوّل محصور منذ العام 1970 ، وحتى قبل ذلك، في اغراقه بالسلاح، لا فارق الى اين يذهب هذا السلاح. سلّح النظام السوري الفلسطيني واللبناني بغض النظر عن الطائفة التي ينتمي اليها. سلّح ميليشيات اسلامية واخرى مسيحية. المهمّ بالنسبة اليه ان يكون لبنان تحت حكم الميليشيات وان يكون هناك تدمير منظم لمؤسسات الدولة اللبنانية. ارتكب مجازر في حق اللبنانيين من مسلمين ومسيحيين مثلما ارتكب مجازر في حق الفلسطينيين الذين لا يزال يتاجر بهم حتى هذه اللحظة.
هل يمكن ان ننسى انه زود ميشال عون (عضو مجلس النواب حاليا) بالذخائر عندما كان يحارب quot;القوات اللبنانيةquot; في العامين 1989 و1990 على الرغم من ان عون المذكور كان وقتذاك على علاقة بصدّام حسين العدو اللدود لحافظ الاسد؟
ما نشهده حاليا بداية النهاية لنظام لا يعرف سوى الهدم. الهدم في سوريا والهدم في لبنان. لم يكن اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط- فبراير 2005 والجرائم الاخرى التي كان لبنان مسرحا لها في تلك المرحلة سوى تعبير عن عمق الازمة التي يمرّ فيها النظام السوري والتي غض العرب النظر عنها طويلا خوفا منه اكثر من اي شيء آخر.
في هذا السياق، يمكن النظر الى الموقف العربي المستجد وادراك اهميته ولكن مع الاصرار في كل لحظة على ان من فرض هذا الموقف هو الشعب السوري بثورته العظيمة التي يبدو ان النظام في دمشق آخر من يريد الاعتراف بها. انه يدرك ان ذلك معناه ان عليه الرحيل اليوم قبل غد رحمة بسوريا والسوريين اوّلا ولبنان واللبنانيين ثانيا والعرب آخرا ولكن ليس أخيرا!