لا معنى لاي اصلاحات حقيقية في اي بلد عربي من دون استمرارية ومتابعة. في غياب الاستمرارية والمتابعة والرغبة في نقل الاصلاحات الى جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية في البلد، تظلّ الاصلاحات اشبه بمسكنات تستخدم لتمرير مرحلة معينة لا اكثر وذلك في انتظار ظهور الحاجة اليها مجددا.
من هنا تبدو اهمّية التجربة المغربية في مجال الاصلاحات والاصرار الملكي على وضعها حيز التنفيذ من دون اي تباطؤ. عامل الوقت يبدو مهمّا في هذه الايام نظرا الى ان العجز عن تنفيذ الاصلاحات يدخل البلد في عملية الدوران في حلقة مغلقة تجعل المشاكل المطلوب معالجتها تراوح مكانها، بل تزداد سوءا. وهذه المشاكل الحقيقية ذات طابع سياسي واقتصادي واجتماعي وهي قابلة لان تتضخم في حال لم تجد من يتصدى لها بفعالية آخذا في الاعتبار ان معظمها ليس وليد الامس القريب، بل مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، اي انها بدأت قبل نحو ثلاثين عاما وقد تفاقمت مع مرور الزمن وغياب العلاج الجذري. وقتذاك ادت سنوات عدة من الجفاف الى هجرة جماعية من الريف الى المدينة ونشوء مدن الصفيح التي لا تزال تشكل الى الآن قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في ضوء ما تشكله من بيئة حاضنة لكل انواع الارهاب والتطرف والبؤس. من حسن الحظ ان الملك محمد السادس ادرك خطورة الظاهرة واعتبر ان الحرب على الفقر هي الحرب الاهمّ التي عليها خوضها.
في خطابه الاخير بمناسبة عيد العرش، دعا محمّد السادس الى انتخابات لمجلس النواب quot;كي نتولّى البناء على نتائج الاقتراع الخاص بهquot; وذلك تمهيدا لـquot;تشكيل حكومة جديدة منبثقة من اغلبية برلمانية متضامنة ومنسجمةquot;. ذهب الى ابعد من ذلك محذرا من ان quot;كل تباطؤ من شأنه رهن دينامية الثقة وهدر ما يتيحه الاصلاح الجديد من فرص التنمية وتوفير العيش الكريم لشعبنا الابيquot;. بكلام اوضح، هناك مسؤولية كبيرة تقع على النخب السياسية في المغرب، خصوصا على زعماء الاحزاب الذين بات عليهم التصدي لتحديات المرحلة المقبلة بعد الاستفتاء على الدستور الجديد الذي يسمح لزعيم الحزب الذي يفوز باكبر عدد من المقاعد في الانتخابات النيابة بتشكيل الحكومة. هل في استطاعة الاحزاب التعاطي مع الوضع الجديد وان تكون في مستوى التحديات التي جاءت بها الاصلاحات؟
في كلّ الاحوال، كان العاهل المغربي صريحا عندما وجه كلامه الى الاحزاب السياسية بشكل مباشر قائلا:quot;ان الاحزاب السياسية التي كرّس الدستور الجديد مكانتها كفاعل محوري في العملية الديموقراطية، اغلبية ومعارضة، مدعوة لمضاعفة جهودها لتحقيق مصالح المواطنين، خاصة الشباب منهم، بمفهومها النبيلquot;. من الواضح ان الاسس وضعت لحياة سياسية من نوع آخر في المغرب. وبعد خطاب محمد السادس لم يعد واردا ان تتذرع الاحزاب بضيق الوقت كي تقول انها لم تكن مستعدة للانتخابات. ما معنى ان يكون الحزب السياسي حزبا اذا لم يكن مستعدا في كل لحظة للانتخابات التي تفرض عليه الاحتكاك المباشر بالمواطن العادي ومعرفة تطلعاته. هل الانتخابات موسم يأتي كلّ اربع او خمس سنوات تستفيق فيه الاحزاب على جمهورها فجأة وتنسى بعد ذلك البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طرحتها؟...
ثمة نقطة ثانية مهمة في خطاب العاهل المغربي وهي تكشف ايضا وجود استمرارية في التعاطي السياسي مع الداخل والخارج في الوقت ذاته. تتعلّق هذه النقطة بالجزائر. فعلى الرغم من كل التصرفات الجزائرية التي لا تستهدف سوى الاساءة الى المغرب، حتى لو كان ذلك يضرّ بالجزائر نفسها، لم يتردد محمد السادس في الدعوة الى فتح صفحة جديدة بين البلدين انطلاقا من اعادة فتح الحدود بينهما، وهي حدود مغلقة منذ العام 1994. مثل هذه الصفحة يفرضها الواقع والعلاقات التاريخية بين البلدين والشعبين. اوليست التهمة التي يسوقها المنتقدون للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في الداخل الجزائري انه quot;مغربيquot;؟ عمليا هذه ليست تهمة بل وسام على صدر الرئيس الجزائري الذي ترعرع في المغرب وناضل ضد الاستعمار انطلاقا من الاراضي المغربية، من مدينة وجده تحديدا. وجده التي تقع قرب الحدود المغربية من الجزائر!
ولكن بعيدا عن الاشخاص، وعن العقد، بما في ذلك عقدة المغرب التي يعاني منها جزائريون كثر، ثمة حاجة الى تجاوز الماضي بكل تعقيداته، بما في ذلك استخدام اداة مثل جبهة quot;بوليساريوquot; لشن حرب استنزاف على المغرب. مثل هذه الادوات لا تفيد لا الجزائريين ولا المغاربة بمقدار ما انها تعكس قصر نظر من جهة ورغبة في البقاء في اسر الشعارات الفارغة من جهة اخرى...في النهاية، هل يمكن شن حرب على الارهاب من دون تعاون اقليمي واسع؟ ام ان الارهاب آفة تستوجب حربا عليها عندما تكون في الداخل الجزائري وتصبح ظاهرة مرحب بها عندما يتعلق الامر بدول الجوار الجزائري!
في حال كان مطلوبا اختصار الخطاب الاخير لمحمد السادس بكلمتين، فالكلمتان هما الاستمرارية والمتابعة. الكلام عن الاصلاح سهل والتنظير للاصلاحات اسهل. الأمثلة على ذلك في العالم العربي أكثر من أن تحصى. الصعب هو المتابعة والتأكد من الامر لا يتعلق بتمرير مرحلة بمقدار ما انه مرتبط بحماية شعب ينتمي الى ثقافة الحياة ويطمح الى ان يكون على تماس مع كل ما هو حضاري في العالم من دون عقد...
- آخر تحديث :
التعليقات