بغياب نسيب لحود، يخسر لبنان ومعه العرب شخصية استثنائية سعت الى نقل السياسة الى مستوى اخلاقي مختلف بعيدا عن التبعية والتزلف والكذب والفساد. قاوم نسيب لحود، وهو من طينة اخرى، المرض في السنوات الاخيرة بشجاعة فائقة. وعندما عاد الى لبنان من مرحلة علاج في باريس في تشرين الثاني- نوفمبر الماضي، لم يجد عقدة في الحديث عن انه كان يعالج من quot;السرطانquot;. كانت في ذلك شجاعة يفترض ان تدفع باللبنانيين على الاعتراف بالمرض، اي مرض يصابون به. كم هي كثيرة امراض اللبنانيين وكم كثر الذين يرفضون الاعتراف بالمرض. فالاعتراف بالمرض خطوة اولى على طريق مواجهته بدل الهرب منه.
انها شفافية نسيب لحّود التي لم تفارقه يوما والتي حملته على الامتناع عن تنفيذ اي مشروع في لبنان، على الرغم من ان شركته كانت بين افضل من ينفّذ مشاريع مرتبطة بانتاج الطاقة الكهربائية في المنطقة العربية كلها. فعل ذلك منذ اليوم الاوّل الذي تولى فيه منصبا رسميا كسفير للبنان في الولايات المتحدة مطلع التسعينات من القرن الماضي عندما انتقل الى غمار العمل السياسي.
قلائل هم السياسيون اللبنانيون الذين كان يمكن مقارنتهم بنسيب لحود. ربما كان الماروني الوحيد الذي تصلح اي مقارنة بينه وبين نسيب لحّود هو العميد ريمون اده، رحمه الله. كان ريمون اده سياسيا مختلفا بكل معنى الكلمة ليس بسبب ترفعه عن الماديات ونظافة كفه ورفضه ان يكون تابعا لاحد فحسب، بل بسبب بعد نظره السياسي ايضا. الاكيد ان ظروف لبنان والمنطقة كانت مختلفة ايام ريمون اده. ولكن ليس ما يمنع التاكيد ان هناك نقاط تشابه كثيرة بين الرجلين من بينها الابتعاد عن كل ما يمكن ان يربط اسم اي منهما بالعنف والسلاح...
كان ريمون اده السياسي اللبناني الوحيد الذي وقف فعلا في وجه توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. كان السياسي الوحيد الذي ادرك باكرا ما سيترتب على لبنان في حال توقيع الاتفاق المشؤوم الذي جرّ ولا يزال يجرّ الويلات على الوطن الصغير نظرا الى انه يسمح بجعل جزء من الارض اللبنانية خارج سلطة الدولة وسيادتها.
وضع اتفاق القاهرة، الذي أُجبر العرب لبنان على توقيعه بغية التغطية على هزيمتهم في العام 1967 ، ألاساس لـquot;الجزر الامنيةquot; التي لا يزال لبنان يعاني منها حتى يومنا هذا. اساء اللبنانيون الى ريمون اده وما زالوا يجهلون ما قدّمه للبنان، مثلما ما زالوا يسيئون الى نسيب لحود الذي لعب دورا اساسيا في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف في العام 1989، خصوصا لجهة دفع المسيحيين الى المشاركة في الحياة السياسية آخذا في الاعتبار التراجع في اوضاعهم على كل صعيد، خصوصا بسبب الحرب.
لعب نسيب لحود دوره في تكريس السلم الاهلي وجعل العيش المشترك صيغة مقبولة على الصعيد اللبناني ككل. مارس ذلك بالافعال والممارسة اليومية وليس بمجرد الكلام كما يفعل غيره. فعل ذلك بعيدا عن اي تمنين وشعارات فارغة يرفعها المتزلفون والطائفيون الذين يتقنون فنون العمالة والزحف والتملق والتعصب الديني بكل اشكاله. هؤلاء الانتهازيون، باستثناء الشيخ سامي امين الجميّل طبعا، احتلوا المقعد النيابي لنسيب لحود في المتن بفضل عاملي الجهل وانفلات الغرائز البدائية قبل اي شيء آخر. كانت الخسارة خسارة للمتن وللبنان وليس لنسيب لحود الذي لم يستطع اي شخص، حتى من كان من الد اعدائه، ان يخدش سمعته بحرف واحد.
نسيب لحّود رجل عربي، لبناني، شريف، نظيف. لم يكن اضطراره الى الابتعاد عن الاضواء عائدا الى المرض فحسب، بل الى سوء تقدير اللبنانيين والعرب له ايضا. ربما كان مردّ ذلك الى ان النجاح السياسي في لبنان مرتبط في احيان كثيرة بالكذب والتبجح، فيما النجاح لاي سياسي لبناني في العالم العربي، باستثناء قليلين لا يتجاوز عددهم عدد اصابع اليد، مرتبط بالنفاق والكذب والتحايل في معظم الاحيان، خصوصا عندما يتعلّق الامر بالنظام السوري الذي لا يستطيع التعاطي الاّ مع العملاء. بالنسبة الى هذا النظام، كل الناس عملاء. كل السياسيين اللبنانيين وغير اللبنانيين عملاء. الفارق هو بين عميل مع وعميل ضدّ.
من هذا المنطلق، كان طبيعيا ان يختار النظام السوري اميل لحّود رئيسا في العام 1998 وان يمدّد له ولايته وان يكون حليفه في السنة 2011 شخص مثل النائب المسيحي ميشال عون. ما الذي يجمع بين اميل لحود وميشال عون غير القدرة على الخضوع والتزلف... فضلا عن الجهل والجهالة طبعا؟
يتبيّن كل يوم بالملموس انّ لا قدرة لدى هذا النظام السوري على التعاطي مع الاحرار الذين يقولون كلمة صادقة. ولذلك ايضا، ليس غريبا ان يحل بهذا النظام ما حلّ به. انه نظام عاجز عن التعامل مع الشرفاء الذين يقولون له الحقيقة كما هي ولا شيء غير الحقيقة. انه نظام لا يستطيع التعامل الاّ مع صغار الصغار. انه نظام عاجز عن التعاطي مع اي سياسي لبناني يمتلك حدّا ادنى من الحيثية والكرامة بدءا بكمال جنبلاط وصولا الى رفيق الحريري وسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار امين الجميّل وانطوان غانم مرورا بالمفتي حسن خالد وبشير الجميل ورينيه معوّض وكثيرين آخرين...
يعود نسيب لحود الى لبنان بعد غيبة طويلة في باريس. يعود الى لبنان، كما غادره، رجلا ليس كبقية الرجال وسياسيا ليس كبقية السياسيين. يعود الى لبنان كما كان دائما سياسيا حرّا يشرّف لبنان ويشرّف كلّ عربي من المحيط الى الخليج. يكفيه انه لم يتزلف لاحد. عارض حكومات رفيق الحريري عندما كان يجد ان عليه ان يعارضها وذلك من منطلق علمي اقتصادي وبلغة الارقام. ردّ عليه المسؤولون وقتذاك بالطريقة العلمية نفسها. رفع ذلك من مستوى النقاش السياسي والاقتصادي في لبنان.
المؤسف ان لبنان لم يستفد من نسيب لحّود. كانت الخسارة لبنانية اوّلا. الخسارة لا تعوّض. كذلك كانت الخسارة عربية. اما بالنسبة الى النظام السوري، الذي وضع كل العصي في طريق وصول نسيب لحّود الى الرئاسة، فان خسائره لا تحصى بسبب رفضه التعاطي مع اللبنانيين الشرفاء حقّا. خسر لبنان قبل ان تخسر سوريا.
مثلما لم يعرف النظام في دمشق التعاطي مع ريمون اده في السبعينات من القرن الماضي، لم يدرك في الوقت المناسب ان خلاصه كان في التعاطي مع سياسيين في مستوى نسيب لحّود في التسعينات والعقد الاول من القرن الواحد والعشرين. لم يدرك هذا الامر ولن يدركه يوما... ربّما سيدركه بعد فوات الاون، بعدما خسر لبنان نسيب لحّود بكل ما يمثله من قيم!