بعد ايّام، في السادس والعشرين من ايلول- سبتمبر الجاري، تمرّ الذكرى الـ49 للثورة اليمنية. تأتي الذكرى فيما تبدو الحاجة اكثر من اي وقت الى وقفة تأمل تؤمن انتقال هذا البلد المهم والذي يعتبر امنه جزءا لا يتجزّأ من الامن الخليجي الى وضع مختلف يؤمّن حدّا ادنى من الاستقرار. البديل من ذلك، تفتيت لليمن لا يستفيد منه اي يمني. اكثر من ذلك، سيتحوّل اليمن الى مصدر خطر على كلّ دول المنطقة نظرا الى ان ارضه اصبحت ارضا خصبة لنمو كل انواع التطرف وذلك ليس بسبب انتشار السلاح فحسب، بل بسبب البؤس والفقر والجهل. هذه العوامل تشكل مزيجا كفيلا باشعال البلد وتفجيره وجعل الحريق يمتد الى خارج الحدود اليمنية... ايّ الى كلّ الخليج وليس فقط الى البلدين اللذين لديهما حدود برّية مشتركة مع اليمن.
كانت الايام القليلة الماضية اياما صعبة في اليمن. هناك عودة مفاجئة الى التصعيد رافقه سقوط ضحايا بريئة في وقت كانت هناك مساع لايجاد مخرج من الازمة المستمرة منذ اشهر عدة والتي بلغت ذروتها بمحاولة اغتيال الرئيس علي عبدالله صالح وكبار معاونيه في الثالث من حزيران- يونيو الماضي حين حصل تفجير لمسجد النهدين الواقع في حرم quot;دار الرئاسةquot; فيما كان علي عبدالله صالح يؤدي الصلاة فيه.
ليس سرّا ان الرئيس اليمني لا يزال في المملكة العربية السعودية يمضي فترة نقاهة نتيجة الحروق والجروح التي اصيب بها. وليس سرّا ايضا ان فشل محاولة اغتيال الرئيس اليمني خلق معادلة جديدة في اليمن تفرض اكثر من اي وقت البحث عن مخرج من الازمة يضمن انتقال البلد الى مرحلة جديدة بعيدا عن العنف والمزايدات والتصعيد. بكلام اوضح، لا يمكن شطب الرئيس اليمني من المعادلة. المنطق يقول انه من اجل ضمان مستقبل البلد، لا مفرّ من حوار يؤدي الى وضع اسس لمرحلة انتقالية تديرها حكومة وحدة وطنية يتمثّل فيها الجميع وتوفّر في الوقت ذاته ضمانات للجميع.
تبدو اللعبة الوحيدة المتاحة في اليمن، في حال كان مطلوبا تفادي استمرار التوتر والعنف، هي اللعبة السياسية. لا بديل من السياسة، اي لا بديل من تنظيم للمرحلة الانتقالية على اسس تحفظ ماء الوجه للجميع. فالرئيس اليمني اكّد انه لا ينوي تمديد ولايته واكّد ايضا ان لا توريث وانه على استعداد للبحث في تنظيم عملية انتقال السلطة. المهم اقتناع الجميع بأنّ الملعب اليمني تغيّر وان مشاكل البلد لا تحلّ عن طريقة التظاهرات والشعارات التي تعني الكثير ولا تعني شيئا في الوقت ذاته. في النهاية، لا علاقة للمشاكل الحقيقية التي يعاني منها البلد بما يطرحه المتظاهرون والمعتصمون او اولئك الذين في السلطة، خصوصا ان هناك استعدادا لدى علي عبدالله صالح لمناقشة مسألة انتقال السلطة خلال فترة معقولة متى تتأمن شروط معينة.
المهمّ في هذه المرحلة ابتعاد كل طرف من الاطراف المعنية بالازمة عن الحلول العسكرية والدموية، لا لشيء سوى لانّ لا وجود لمثل هذه الحلول. للمرّة الالف، ليس في استطاعة احد ان يلغي احدا في اليمن. واذا عدنا الى السنوات التي تلت الثورة اليمنية، فانّ ما لا بدّ من الاعتراف به ان المواجهات العسكرية بين الملكيين والجمهوريين كان يمكن ان تستمرّ الى ما لا نهاية، بسبب التورط الخارجي والتعقيدات الداخلية، لولا التوصل الى اتفاق اوقف الحرب الاهلية وسمح في العام 1967 بقيام سلطة جديدة هي كناية عن المجلس الجمهوري برئاسة القاضي عبدالرحمن الارياني الذي بقي في السلطة حتى العام 1974. وقتذاك، استقال القاضي الارياني، وبقيت استقالته طيّ الكتمان، فور بلوغه ان احتمالات الانقلاب العسكري واردة وان العنف لم يعد مستبعدا!
من دروس ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 ان مشاكل اليمن لا تحلّ الا بالحوار. لكنّ الاهمّ من ذلك ان مشاكل اليمن في العام 2011 صارت مختلفة كليا عن تلك التي كانت قائمة في الماضي. قبل كلّ شيء، لم يعد من يحكم صنعاء قادرا على بسط سلطته على كلّ اليمن. ثمة حاجة الى صيغة حكم جديدة لليمن. الاكيد ان اطاحة علي عبدالله صالح بالقوة عن طريق الزحف في اتجاه quot;دار الرئاسةquot; لا تؤدي الى اي نتيجة باستثناء اندلاع حرب شوارع في العاصمة وسقوط ضحايا بريئة.
اليمن في السنة 2011 يمن مختلف كلّيا عن يمن العام 1962. لقد مر البلد في خلال تسعة واربعين عاما كان علي عبدالله صالح في معظمها رئيسا للدولة (من العام 1978 الى الآن) بتجارب عدة. اقلّ ما يمكن قوله ان من المفترض الاستفادة من تلك التجارب ومن الجوانب الايجابية على راسها تحقيق الوحدة في العام 1990. فبغض النظر عن شكاوى محقة لجنوبيين كثيرين، لا يمكن تجاهل ان الوحدة انهت الصراعات الجنوبية- الجنوبية ذات الطابع الدموي التي ميّزت المرحلة الممتدة بين استقلال الجنوب في العام 1967 وتحقيق الوحدة في 1990. كذلك، ترافقت الوحدة مع قيام التعددية الحزبية التي يضمنها الدستور ووضعت الاسس لانتخابات شبه ديموقراطية. الاهمّ من ذلك كله، ان الوحدة اوقفت ايضا المواجهات والتوتر المستمر بين الشمال والجنوب كما سمحت لليمن برسم حدوده البرية والبحرية مع كل جيرانه. باختصار، سمحت الوحدة بوضع الاسس لدولة مؤسسات مبنية، اقلّه نظريا، على التداول السلمي للسلطة. ربما آن وقت وضع هذه الاسس موضع التنفيذ اليوم قبل الغد.
مشاكل اليمن مختلفة اليوم. هناك الفقر والبؤس والبرامج التعليمية السيئة والنمو السكاني العشوائي وفقدان التنمية والفساد. وهناك مشكلة مجاري صنعاء وانقطاع الكهرباء وشح المياه وزراعة القات والادمان عليه. وهناك مشاكل شمال الشمال حيث يتمدد الحوثيون انطلاقا من صعدة. وهناك مشاكل مرتبطة بمواقف زعماء حاشد من آل الاحمر من علي عبدالله صالح وافراد عائلته واخرى مرتبطة بانشقاقات داخل الجيش. وقد انتقلت هذه المشاكل الى قلب صنعاء. ما يزيد الامور تعقيدا الاوضاع السيئة في المناطق الوسطى حيث تعز، اكبر مدينة يمنية وعاصمة اكبر تجمع سكّاني متجانس مذهبيا في البلد، وفي المحافظات الجنوبية حيث الفوضى ولا شيء غير الفوضى معطوف عليها التطرف في بعض المناطق، كأبين مثلا...
في الذكرى الـ49 للثورة اليمنية، من المفيد التطلع الى اليمن من زاوية مختلفة، زاوية تركّز على البحث عن صيغة جديدة للبلد تأخذ في الاعتبار مشاكله الحقيقية التي لا يمكن الهرب منها لا عن طريق الشعارات والثورات ولا عن طريق الانقلابات والاغتيالات ولا عن طريق التمسك بالسلطة. هناك مرحلة انتهت في اليمن. السؤال كيف الانتقال الى مرحلة جديدة عن طريق البناء على ما بقي من ايجابيات المرحلة السابقة مع الاعتراف بان السلبيات كانت كثيرة ايضا!