دخل العالم العربي مرحلة متقدمة من عملية اعادة تشكيله. هناك شرق اوسط جديد يولد حاليا، حتى ان حدثا في غاية الاهمية والخطورة في حجم ولادة دولة جديدة في السودان مرّ مرور الكرام. لم يوجد، حتى في مصر المعنية مباشرة بالحدث، من يسعى الى فهم ما جرى في السودان وانعكاسات تقسيم البلد على مستقبل كل دولة من دول المنطقة.
لم يكن ذلك عائدا الى التقصير العربي والمصري في مواكبة الاحداث فحسب، بل الى تسارع التطورات على الصعيد الاقليمي ايضا.
في البداية، كان الزلزال العراقي. قليلون ادركوا منذ البداية معنى التغيير الذي حصل في العراق وعمقه نتيجة القرار الاميركي القاضي بالتدخل عسكريا لاسقاط النظام العائلي- البعثي. لم يكن اسقاط النظام خطأ، خصوصا ان كل ما فعله صدّام حسين، الذي لم يفهم يوما معنى التوازنات الاقليمية والدولية، هو اخذ البلد من مغامرة الى اخرى رافضا ان يأخذ علما بانّ كلّ ما فعله كان يصب في القضاء على نسيج المجتمع العراقي.
كان الخطأ في طريقة التصرف الاميركية في مرحلة ما بعد سقوط النظام مباشرة وفي الاشهر التي سبقت الغزو. فعل الاميركيون كلّ شيء من اجل تحويل الجزء الاكبر من العراق مستعمرة ايرانية. من لديه ادنى شكّ في ذلك يستطيع العودة الى ولادة الحكومة الحالية برئاسة السيّد نوري المالكي. تشكّلت الحكومة على الرغم من ان المالكي خسر الانتخابات النيابية امام قائمة برئاسة الدكتور اياد علاّوي. ولدت الحكومة الحالية التي لا تزال غير مكتملة بقوة السلاح المذهبي لا اكثر. الامر لا يشبه سوى ولادة الحكومة اللبنانية الحالية التي تؤكد ان النظام في ايران استطاع وضع يده على الوطن الصغير بفضل السلاح المذهبي ايضا.
المضحك- المبكي ان المسؤولين الاميركيين بدأوا يستغربون كيف ان العراق تحوّل رئة للنظام السوري الذي دخل في مواجهة مع شعبه. بقدرة قادر، تحوّل رئيس الوزراء العراقي من طرف يشكو من الدعم السوري للارهابيين الذين يزرعون الموت في العراق ويريد محاكمة دولية للنظام... الى داعم له بكلّ الوسائل الممكنة!
هل يستطيع نوري المالكي التمرد على الطلبات الايرانية هو الذي لم يكن يحلم بالعودة الى موقعه في رئاسة الحكومة لولا طهران وما وفرته له وما فعلته من اجل منع الدكتور علاّوي من ان يصبح رئيسا للوزراء؟
يحصد الاميركيون حاليا ما زرعوه في العراق. زرعوا الطائفية والمذهبية وسهّلوا عملية تقديم البلد على صحن من فضّة الى ايران. لا يزال الزلزال العراقي في بدايته. لكنّ كلّ ذلك يدعو الى التساؤل: هل مسموح لايران وضع يدها على العراق وعلى نفط العراق خصوصا؟ هل يمكن بقاء الشعب الايراني العظيم ذي الحضارة القديمة متفرجا على ما يدور في بلده؟ هل يمكن للنظام في ايران انقاذ النظام السوري المرفوض من الاغلبية الساحقة من شعبه؟ الارجح ان الشرق الاوسط الذي تحلم به ايران اقرب الى الوهم من اي شيء آخر، على الرغم من كل النقاط التي تسجّلها في غير مكان...
لا شيء يمكن ان يقف في وجه حركة التاريخ. المنطقة كلها ستتغيّر. لن تبقى في المنطقة سوى الانظمة الطبيعية المتصالحة مع شعوبها. تستطيع ايران الاستفادة من الخلل الحاصل حاليا لفترة معيّنة. لكنها لن تتمكن من متابعة سياستها القائمة على اثارة الغرائز المذهبية الى ما لا نهاية. تستطيع الاستفادة من فقدان العرب للثقل المصري. ولكن عاجلا ام آجلا، سيكون هناك نظام جديد في مصر يخلف النظام الحالي القائم منذ العام 1952. لا شكّ ان مصر ستمر في مرحلة صعبة خصوصا بعد تفجّر العنف الطائفي نتيجة ستين عاما من التصرفات المعيبة والاخطاء المتراكمة. مصر مكبلة حاليا. بدت عاجزة كليا حيال ما جرى في السودان وما يجري في ليبيا وبدا المجلس العسكري الحاكم، بالاسم فقط، في حال من الضياع التام امام التظاهرات القبطية. لم يجد ما يفعله سوى القمع ولا شيء آخر غير القمع. لم يستطع تقديم اي حلول من اي نوع كان لمشكلة ذات طبيعة اجتماعية في الاساس.
حال الضياع في مصر جزء من حال الضياع العربية لا اكثر ولا اقلّ. هناك وضع جديد في الشرق الاوسط يصعب على الذين عاشوا في الماضي وما زالوا يعيشون فيه التعاطي معه. على رأس هؤلاء النظام السوري الذي يعتقد ان الاحداث في مصر ستطغى على الاحداث في سوريا وانه سيكون قادرا على ممارسة القمع الى ما شاء الله فيما العالم يتفرّج...
المنطقة تتغيّر. ليس في استطاعة اي قوة وقف التغيير. كانت السنة 2011 التي دخلت ربعها الاخير سنة التحولات الكبيرة والفوضى العارمة. هل توقع الاميركيون كلّ هذه الفوضى الناجمة عن الحرب على العراق؟ الاكيد انهم توقعوا شيئا آخر هم وغيرهم من المسؤولين في الدول الكبيرة، او تلك التي لا تزال تعتبر نفسها كبيرة وفاعلة. اوليس الفيتو المزدوج الروسي الصيني الذي حال دون ادانة النظام السوري في مجلس الامن دليلا على امتداد حال الضياع الى هاتين الدولتين؟
لم تعد روسيا والصين في وضع يسمح لهما بامتلاك رؤية واضحة لمستقبل الشرق الاوسط. ربما كان ذلك السبب الذي دفعهما الى استخدام الفيتو، ربما ايضا، ان البلدين في حاجة الى بعض الوقت لاستيعاب ان ليس في الامكان انقاذ انظمة دخلت في مواجهة مع شعوبها... حتى لو اعتمدت هذه الانظمة على كل انواع الغرائز من مذهبية وغير مذهبية وحتى لو اتتها كل انواع الدعم من انظمة تظن انها ربحت حروبا على العرب بفضل الاميركيين!