لم تزل تفتح ابوابها للامل


ها هي بغداد.. مازالت تشم رائحة الدخان وتسمع اصوات الفزع وترى ألسنة الحرائق وتتذوق مرارة العنف، ولكنها مع كل هذا تتلمس باصابعها.. وجه الامل، مع اصوات العصافير التي لم تغادرها،وما زالت تزقزق وتتكاثر، ومع طلع النخيل الذي تنقله الرياح الى البساتين لتنتج رطبا، ومع لحظة الغبش التي يبتهج بنورها المواطن فيحمل روحه لبناء وترميم وتجديد ما خرب ودمر وتداعى!، ان بغداد مازالت كبيرة لم تتأكسد روحها ولم يتعفن قلبها رغم الصدمات التي تتعرض لها منذ خمس سنوات، بل منذ عشرات السنين، لكن الخمس الاخيرة هي بعض مخلفات (عاصفة الصحراء) او (ام المعارك)، من بعد معارك ومعارك ومهالك ومهالك وسنين حروب وسنين حصار وسنين هجرة وسنين تشرذم وامتهان وقسوة لم تعرفها مدينة في العالم، وبغداد واقفة ترى وتسمع وتحزن، تستجمع كل ما يمر منها تختزنه في الذاكرة التي لا تشيخ ولا تمحى، تستعيد تاريخها فتجهش، وتستذكر عذاباتها فتتأوه، وتنظر حاضرها فلا تجد الا ان تشتد في وقفتها تاركة للرياح ان تعبث بشعرها وهندامها وشهرتها، لكنها لن تتعرى..، لكي لا يلتقط مصورو ازمنة الرماد الفاسقون صورا لها يساء فهمها، وتكون علامة على انتهاك عزتها وكبريائها.
يوم امس..اي قبل يوم واحد من من ذكرى التاسع من نيسان، كانت ساعات الصباح الاولى مساحة لتطلعاتي نحو ما مضى وما سيأتي، قفزت وانا متلهف الى امتطي ظهر الامكنة واتدحرج في انهار الشوارع وعلى ارصفتها تاركا لنظراتي مسح ما تقع عليه، والغريب انني افعل كل ذلك وانا اترنم بأبيات قالها نزار قباني عام 1962 :

بغداد.. يا هزجَ الخلاخلِ والحلى
يا مخزنَ الأضـواءِ والأطيابِ
لا تظلمي وترَ الرّبابةِ في يـدي
فالشّوقُ أكبرُ من يـدي ورَبابي
قبلَ اللقاءِ الحلـوِ كُنـتِ حبيبَتي
وحبيبَتي تَبقيـنَ بعـدَ ذهـابي

امشي على الشارع العام وانظر وجوه الناس الذين اعبر منهم، الذين افترشوا الارصفة لبيع بضاعة ما، او الذين وجدوا اماكن رزقهم في الاسواق و (كراجات) النقل، او الذين يمارسون التسول، اتخيلهم قبل هذه السنوات الخمس، قد لا ارى تغييرا كبيرا في الصورة، ولكن ثمة شيء يرتسم على الملامح يشي ان هؤلاء يمتلكون حريتهم في التعامل مع الاشياء، ليس هنالك كما قال لي احدهم من يبعثر بضاعتهم او يطاردهم او يأخذ الاتاوات منهم، يأتون متى شاءوا ويغادرون مت شاءوا، ولكنني في انطلاق رحلتي اتوقف عن بائع الصحف اسأله عنه بعد خمس سنوات من التغيير، قال : سأوجز لك ماتبحث عنه في كلمات قليلة وهي : على الرغم من كل ماحدث ويحدث الا انني اشعر بالفخر ان سنوات الدكتاتورية ولت، وما أسوأها من سنوات كنا نخاف فيها من ظلالنا ومن اولادنا، لا ادعي ان الحال الان افضل لكن قياسا للماضي افضل بكثير، لايمكن المقارنة ابدا، فالماضي لم يترك عملا حسنا بقدر ما ترك مأسيا وتخلفا وشماتة، ورغم المساؤى التي اجدها في واقعنا الحالي الا انني اشعر بالارتياح، في ذلك الزمان لم اشعر بالتفاؤل اما الان فأنا اتفاءل بالاتي، فما يحدث الان هو طاريء وان طال به الامد وسينتهي، وقد ينتهي بغمضة عين وانتباهتها.

البغداديون الذين يستذكرون الايام من قبل التاسع من نيسان 2003 ولغاية الان، الايام التي وصل عددها الى (1727) يوما وليلة، وكل يوم منها يضرب رأسه باليوم اللاحق له، ومع كل ما مر على مدينتهم وما يمر الان.. لم يعلنوا الا الوفاء لها، وان كانت الاخطار المحدقة تحيط بهم، ويرفضون من يقول ان (بغداد سقطت) يردون عليك بقسوة ان نطقت بهذه الكلمات ويصححون لك (ان النظام هو الذي سقط)، والكثيرون ممن حادثتهم تجدهم يشهرون سيوف ألسنتهم : (من يقول ان بغداد سقطت هو الذي في قلبه مرض وحقد على بغداد، بغداد لم ولن تسقط وهاهي شامخة باهلها وتاريخها، ان من سقط هو النظام الدكتاتوري ومن يربط سقوطه ببغداد سيء الطبع حاقد كاره لها ). اتصلت بصديق لي يسكن في (مدينة الصدر) سألته عن احواله في ظل حظر التجوال المفروض على المدينة منذ اسبوع، قال : اشعر بالحب، (ومن ثم ضحك)، قد اخشى من اشياء معينة لكنني لن اخشى من الايام المقبلة، ان الناس تعيش في حالة يرثى لها ويخافون من سوء قد تتعرض له ولكنها لاتشعر باليأس وهي تتطلع الى تتغير الاحوال نحو الافضل.
خمس سنوات مرت.. من عمر بغداد الجديد، خمس سنوات ضاجة بكل ما هو معقول وما هو غير معقول، تجاذب واقعها اشكال من البشر : محبون ووطنيون وحاقدون وكارهون ومجرمون وادعياء وانتهازيون ومثقفون وجهلة وعابدو اصنام، عراقيون وعرب واجانب، من ادنى الارض الى اقصاها، كلهم دخلوا وتدخلوا، وكثر الحديث عن بغداد، من داخلها ومن خارجها، من اهلها ومن الغرباء عنها، من الذين يعرفون تاريخها واصلها وفصلها ومن الذين لا يعرفون سوى لفظة اسمها ومن الذين يحبونها الحب كله ومن الذين يكرهونها الكره كله، يكثر الحديث عنها وتصبح مركز استقطاب للعواطف والافكار والحكايات، وتتزاحم فيها احاديث الجغرافية بالتاريخ والاجتماع بعلم النفس والسكان بالامكنة وتمتد الشوارع لتكون سالكة وغير سالكة وتجلس المدن القرفصاء مثقلة بهموم لم تكن تعرفها وقد احاطت نفسها بأسيجة من اسلاك شائكة راحت الغربان تقف عليها وتحاول ان تنعق في ارجائها.
وحين يكثر الحديث عن بغداد.. ذلك لانها ليست ككل المدن، بل هي مدينة استثنائية في كل ما تمتلكه، مدينة تقوم على خليط من المحبة والطيبة والعظمة والروعة والجمال، والناس فيها اخذوا من هذه الصفات فكانت ارواحهم واجسادهم خزائن نفيسة من العلاقات الوشيجة فيما بينهم، وهذا الاستثناء هو ما جعل الاخرين من خلف الحدود يرسلون الغربان والخفافيش ولا يتورعون عن اقامة اجراءات (الطلاق) ما بين الكرخ والرصافة وما بين المدن والاحياء داخلهما من اجل ان يكثر المتسولون ويزداد عدد الهامشيين وتتحول المناطق الى قطاعات يحكمها المرتزقة وعصابات الاجرام والغرباء والكارهون الذين يحتفلون برغباتهم في انهم حولوا (مدينة السلام) الى (مدينة السلاح) وراحوا يتغنون كل على طريقته الخاصة، بجرائمهم النكراء والبغيضة.
بغداد.. ليست لهؤلاء، وبغداد ليست هكذا، بل هي نتاج زواج شرعي ما بين الكرخ والرصافة الذين يحبان بعضهما حبا كبيرا، ودجلة هو (المأذون الشرعي الالهي) الذي ربط الروحين معا، لذلك لا يمكن للاعظمية ان تعيش بلا الكاظمية ولا الكرادة يمكنها ان تعيش بلا الدورة، ولا شارع الرشيد بلا شارع حيفا ولا ساحة الشهداء بلا ساحة الميدان ولا علاوي الحلة بدون الباب الشرقي، وما الجسور الا الشرايين التي تمتد من هنا الى هناك، واذن.. لا يمكن للكرخ ان يعيش بلا الرصافة ولا الرصافة يمكنها ان تعيش بلا الكرخ وما يقال من حكايات مصدرها الذين يكرهون بغداد واهلها ويبغضون ان تكون بغداد جوهرة الشرق الاوسط كما تراءى ذلك في الحقيقة والاحلام بعد ان سقط الصنم وتحطمت الاغلال ورفعت بغداد رأسها لتبتسم للحرية

حينما سرت في شوارع بغداد رأيت ان بعض الامكنة تغيرت ولكن الوجوه نفسها وهي تمتلك الاريحية ذاتها وتعبر عنها بالمزاح البريء، وما عليك الا ان تحادث من شئت وتمزح معه فسوف تجده يمازحك، فحين تمر من امكنة مثل الاسواق والمطاعم والمقاهي ومرائب السيارات والارصفة المكتظة تسمع تعليقات ساخرة وكلمات تدفعك الى الابتسام وحتى الذي نراه مكفهرا اذا ما حادثته سميتزج بك حد النكتة، ليس هنالك من تواصل في حالة واحدة، تشعر ان الناس تكيفت مع الظروف الى حد انها تنتمي للظرف ذاته، كل شيء يصبح عندها عاديا الحياة والموت، ولا اخفي ان الناس مع حزنها الباذخ تراها تتحدث عن امل وتفاؤل وسعادة مقبلة رغم كل (الخربطة) والفوضى والاحداث غير المعقولة وتسمع كلمات (ان الفرج قريب)، ويتحدثون عن الديمقراطية التي فهموها بشكل خاطيء، ويؤكدون ان السنوات الخمس علمتهم الكثير واكسبتهم تجارب وعرفوا الصح من الغلط، وفرقوا بين الصالح والطالح، تسمع من يقول لك : ان يوم التاسع من نيسان هو عيد وطني رغم كل ما تبعه من ارهاب مستورد او (مصنع) في مصانع النظام السابق.

عبد الجبار العتابي

بغداد