نشرت ايلاف فى عددها الصادر يوم الجمعة 30 أيار/مايو 2008 بعنوان: الصدر يبدأ تحركا شعبيا ضد الاتفاقية العراقية الأمريكية، وانه باشر بحملة شعبية ضد الاتفاقية التى تجرى مفاوضاتها حاليا حيث خرج الآلاف من انصاره فى مدن عراقية عدة تندد بها وبالاحتلال، بينما هاجم ممثل المرجع الشيعي الأعلى السيد على السيستاني الاتفاقية مؤكدا انها تثقل كاهل الشعب العراقي وتحمله التزامات ومشاكل هو فى غنى عنها. وذكرت ايلاف أيضا ان نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي أمس رفض العراق التوقيع على الاتفاقية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة فى شكلها الحالي بسبب ما تحتويه من بنود تمس السياسة الوطنية. لا أجد فى البنود الثلاثة التى ذكرتها ايلاف ما يمس السيادة العراقية أو أي ضرر عليه من الناحية الاقتصادية أو الأمنية، بل أجد فيها حماية للعراق من الجيران، وتحقيق المصالحة الوطنية، وضمان تسليح القوات العراقية وتدريبها، واطفاء أوالغاء التعويضات نتيجة الحروب التى قام بها النظام السابق.

ترى من أين جاء مقتدى الصدر بالمعرفة التى تؤهله للحكم على معاهدة أو اتفاق سياسي؟ أمن الدروس الدينية الضئيلة التى تلقاها، أم من لعبة الأتاري التى كان يمارسها؟ يقبع فى قم / ايران ويرسل الشباب الصغارالبسطاء المغرر بهم الى الموت و السجون، ويدعى انه يكمل دراسته الدينية الفقهية. فكيف يقوم طالب بالقيادة بوجود أساتذته؟


قد أخذ العراقيون بعد سقوط الحكم العثماني واقامة الحكم الملكي بمطالبة الحكومة الفتية على القيام بأمور هى أعجز من أن تقوم بها بسبب حداثة الدولة ووجود القوات البريطانية فيها وعدم وجود جيش مؤهل لمقارعة تلك القوات. ولم يكن أمام تلك الحكومات سوى التروي فى الخطوات التى تقوم بها، فبدأت بانشاء المدارس والمستشفيات وشق الطرق وتعبيدها وبدأت بتكوين الجيش العراقي الذى تشكل من فوج واحد فقط لا يكفى لحل النزاع بين عشيرتين متخاصمتين. لقد خلف الحكم العثماني عراقا مخربا ومتخلفا فى كل مجالات الحياة، فكيف يستطيع أي حاكم مهما كان وطنيا ومخلصا ان يخرج الجيش البريطاني بالقوة؟ كانت سياسة الملك فيصل الأول هى فى ان يأخذ من البريطانيين ما يستطيع ويطالب بأكثر.


ولكن العراقيين وقد شعروا بشيء من الحرية بعد أن كتم العثمانيون على أنفاسهم أربعة قرون، خرجوا الى الشوارع يهتفون: فرنسه وانكلتره والقندره!!! ويطالبون باخراج القوات الأجنبية، وينسون الحديث: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.

تذكرت ما سمي بوثبة كانون الثاني 1948 والتى قادها الشيوعيون الذين استفادوا من الوضع الاقتصادي الحرج آنذاك فى العراق والذى أصاب العالم كله بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين انقسم العالم الى معسكرين: شيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي، ورأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. وأتذكر جيدا تلك الأيام التى كان الشيوعيون فيها يدعون الناس الى الانخراط فى الحزب الشيوعي، وان الشيوعية ستوفر الرفاهية والخير والغنى للجميع، فصدقهم معظم الناس الذين كان الفقر مستحوذا عليهم، فما ان اذيع عن معاهدة بورتسموث التى وقعها صالح جبر رئيس وزراء العراق فى ذلك الوقت حتى تصدر الشيوعيون المظاهرات التى تحولت الى مصادمات دموية بين المتظاهرين ورجال الشرطة وسقط فيها عدد كبير من الضحايا من الطرفين. وهكذا سقطت المعاهدة قبل ان يعرف الناس مضمونها أو تفاصيلها وقبل ان تصل الى مجلس الأمة لمناقشتها والتصديق عليها او رفضها، وهذا
هو منتهى الجهل من المتظاهرين ومنتهى الاستغلال ممن قادهم من الشيوعيين والسياسيين المتصيدين فى الماء العكر.

وبعد سبع سنوات ويوم كان نورى السعيد رئيسا للوزراء عقدت معاهدة تعاون (تطورت فيما بعد الى ما سمي بحلف بغداد) بين العراق وتركيا فى شباط/فبراير من عام 1955، بأيحاء و بتشجيع من الغرب للوقوف بوجه توسع الاتحاد السوفييتي، وانضمت اليه فيما بعد بريطانيا وباكستان وايران واقتصر حضور الولايات المتحدة فيه بصفة مراقب فى البداية.

وبطبيعة الحال عارضه الشيوعيون ومن لف لفهم من دعاة القومية والوحدة العربية التى كان ينادى بها جمال عبد الناصر الذى امتدحها فى البداية ثم انقلب عليها فيما بعد بسبب كراهيته لنوري السعيد الذى كان يشكل عقبة كبرى امام مشاريعه لضم العراق و الدول العربية الى مصروالتى فشلت فيما بعد. وانضمت سورية الى مصرفى مقاومة الحلف حيث كان فيها حكم عسكري يخشى اغضاب الشارع، ورفض الأردن الانضمام خوفا من ثورة اللاجئين الفلسطينيين فيه. وبذلك ضيع العرب فرصتهم الأخيرة فى كسب ود الغرب الذى زاد من تأييده لأسرائيل التى لعبت بمهارة على الشرق والغرب وخدعت الطرفين وحصلت على ما تريده من مال وسلاح من كليهما. وكانت النتيجة خسارة العرب لحرب 1956 ونكسة سنة 1967. وقامت فى العراق ثورة 1958 وقتل معظم أفراد العائلة المالكة وقتل نورى السعيد ومثل بجثته كما مثل بجثة ولي العهد عبد الاله. وسرعان ما تكالب على الحكم الشيوعيون والقوميون والبعثيون والضباط المغامرون، وقتل البعثيون الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان ذلك ايذانا ببدء التدهور السريع للعراق، وخاصة بعد ان زج به صدام فى حرب مدمرة مع ايران ثم غزا الكويت بعد ذلك وخربها.

ودمر الأمريكيون وحلفاؤهم من العرب الجيش العراقي المنسحب الى البصرة، وانهار ما تبقى من البنية التحتية للعراق، وفرضت عليه المقاطعة الاقتصادية التى استمرت لغاية نيسان/ابريل 2003 حين دخلت القوات المتحالفة بقيادة أمريكا الى بغداد واسقطت حكم صدام حسين، الذى لم يكف عن التهجم الاعلامي على الغرب وتهديده بحرق نصف اسرائيل، وتصرفه الساذج مع المفتشين الدوليين.

ايران التى قامت بتحدى أمريكا وأرادت ان تجعل من العراق ساحة للنزاع بينها وبين أمريكا، مستفيدة من بعض المعممين فى العراق الذين صعدوا الى السلطة نتيجة انتخابات وتصويت من شعب يسيطر عليه الجهل وسلطان الدين، فنفذ لها بعضهم ما تريد، وزودتهم ايران بالمال والسلاح لابقاء الفوضى مستعرة فى العراق، فى محاولة منها لابعاد الأمريكان ليخلوا لها الجو ولتقتطع من العراق ما شاء لها من جزء او أجزاء تطمع فيها منذ القدم.


وعم الفساد وتدهور العراق بشكل لم يعهده طيلة عهوده الماضية وبضمنها العهد الصدامي، وكلما ظهرت بادرة أمل بالتحسن يقضى عليها بتصريح من معمم جاهل او سياسي انتهازي طائفي فاشل.

طالما بقي العراقيون يطأطئون رؤوسهم لأصحاب العمائم، ويتبركون بلحاهم ويسارعون الى تقبيل أياديهم، فسيبقى هؤلاء يقودنهم من هاوية الى أخرى، وعندما تضيق عليهم الدوائر سيهربون الى الخارج ليعيشوا متنعمين بالأموال التى سرقوها من أفواه ابناء الشعب الجائع وهربوها الى المصارف الأجنبية، ونافسوا مجاميع البعثيين الهاربين الذين هربوا الأموال أيام حكمهم الأسود للعراق ببناء العمارات والقصور واقامة المشاريع الصناعية والزراعية فى الدول الأجنبية.

لايمكن لحكومة ديموقراطية أن تمنع رجال الدين أو غيرهم من التدخل فى السياسة، ولكن الشعب وحده هو القادر على ذلك، فيمتنع عن التصويت لهم فى الانتخابات، فيبدأ مدهم بالانحسار، ويعودون الى اختصاصهم وهو (الدين). ولكن هذا يتطلب شعبا واعيا مدركا، ولا أظن أن شعب العراق مؤهل بعد لذلك، للأسف الشديد، مثله مثل معظم الشعوب التى يسود فيها الجهل وتعودت على تقديس رجال الدين والانقياد المطلق لهم.

يجب ان يتعلم العراقيون انه ليس كل من سب أمريكا والغرب وطنيا مخلصا، وليس كل من مدحها خائنا. ويتعلموا ان لبس العمامة وغيرها مما يرتديه دعاة الدين لا تؤهلهم لقيادة البلد، وعلى المعممين ان يقبعوا فى دور العبادة يبصرون الناس فى أمور دينهم ولا يتدخلوا فى السياسة، لأن خلط الدين والسياسة يفسد الاثنان معا.

فى أواخر الحكم العثماني فى العراق كانت الأمراض السارية (مثل الطاعون والكوليرا والجدري والسل) تفتك بالعراقيين فتكا ذريعا، ولم تكن لديهم الامكانيات المالية ولا الفنية ولا العلمية لأيقافها أو الحد من انتشارها.


ففى عام 1831 كان مرض الطاعون قد تفشى فى العراق وخاصة ببغداد (تطرقت الى ذلك فى الجزء السابع من مقالتى: نحن قوم لا نتعظ). وقبل وصول المرض الى بغداد أشار المعتمد البريطاني فى بغداد على داود باشا بأن يؤسس محجرا صحيا (مستشفى لعزل المرضى بالأمراض السارية)، وقد وضع خطته هذه طبيب دار الاعتماد البريطاني، ولكن الباشا أجاب عن ذلك (بعد ان استشار رجال
الدين ) بأن أفكارا كهذه تناهض الدين حرفا وروحا، وسرعان ما انتشر الطاعون، وشاع فى الناس الذعر وتفككت أوصال الحياة تفككا كليا، ومن مجموع 150 ألف بغدادي بقي منهم 20 ألفا فقط، وفنيت قرى وعشائر ومجمعات بشرية فناء تاما. وضاعت الفرصة على داود باشا باعلان استقلال العراق عن الحكم العثماني، ومن يدري فلربما لو لم يستمع لرجال الدين ويطيعهم لتغير تأريخ العراق ولم يحتله الجيش البريطاني فى سنة 1917.

عاطف العزي