عبد المعطي حجازي ومقارنة أنصاف المواهب بين فيروز وأم كلثوم
منذ ظهرت السيدة فيروز على ساحة الغناء قبل ما يزيد عن خمسين عاماً لم تتوقف المقارنة بينها وبين السيدة أم كلثوم. وارتبطت المقارنة بين القمتين الغنائيتين بعوامل كثيرة كان من أهمها التنافس الكبير على الريادة الثقافية في المنطقة بين لبنان ومصر في حقبة الستينيات، والفتور السياسي في العلاقات المصرية اللبنانية خلال الحقبة الناصرية، فضلاً عن التناطح الفني والنقدي بين محبي الفنانتين حول العالم. لم تكن المقارنة بين المطربتين منصفة لكلا منهما لعدة أسباب يأتي على رأسها أولاً أن لكلا من السيدتين قدراتها الخاصة التي لا تنازعها فيها الأخرى أو ربما أية مطربة أخرى في عالم الناطقين بالعربية، ثانياً أن لكلا منهما إسلوبها المتفرد والمختلف في الغناء، ثالثاً أن لكلا منهما جيشها الخاص من الجمهور والمعجبين والعشاق. ومن ثم فقد سعى الكثير من كبار النقاد والكتاب والمثقفين للنأي بأنفسهم عن عقد مقارنة بين من يعتقد على نطاق واسع بأنهما خير صوتين أنجبتهما البلاد العربية.
لذا أُصِبْتَ بالصدمة حين قرأت مقالاً ينتقص من السيدة فيروز نشرته جريدة الأهرام المصرية لشخصية مثقفة واعية وكبيرة بحجم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي أحرص بصفة منتظمة على متابعة أعماله الشعرية وإسهاماته الثقافية. قال حجازي في مقاله بتاريخ الأربعاء 28 مايو 2008، quot;ولقد كنت أقيم في باريس حين تآمر بعض أنصاف المواهب علي إصدار بيان من منظمة اليونسكو ينددون فيه بالموسيقار العظيم محمد عبد الوهاب ويتهمونه بالسرقةrlm;، كما تنطع آخرون مثلهم فأخذوا يعقدون مقارنات لا محل لها بين أم كلثوم وفيروزrlm;، فيظلمون أم كلثوم التي لا يقارن بصوتها صوت آخرrlm;، ويظلمون فيروز التي نعرف حدود صوتها ونقدر مزاياه ونحبه ضمن هذه المزايا وهذه الحدودrlm;.quot;
لم أصدق في بداية الأمر أن قلم الشاعر عبد المعظي حجازي سقط أمام إغراءات عقد مقارنة بين الصوتين، بعدما انتقد هو نفسه في مقاله من أسماهم quot;أنصاف المواهبquot; بسب مقارناتهم التي وصفها شخصياً بالـquot;ظالمةquot; بين صوتي فيروز وأم كلثوم. ولكن الشاعر الكبير الذي نحترمه جميعاً انزلق، للأسف، عمداً ومع سبق الإصرار، إلى صفوف quot;أنصاف المواهبquot; حين وصف صوت فيروز بالمحدود وأصر على وضعه في مرتبة أدنى من مرتبة صوت أم كلثوم. وأقول هنا عمداً ومع سبق الإصرار لأن حجازي لو أراد حقاً الابتعاد عن المقارنة لاكتفى بالقول بأن لكلاً من الصوتين مميزاته الخاصة أو ما شابه ذلك، ولكن الكاتب عمد إلى وصف صوت فيروز بالمحدود لشعوره بالغضب من مقارنة فيروز بأم كلثوم.
يبدو أن انتماء الشاعر عبد المعطي حجازي الكلثومي قد حجب عنه رؤية الأمور في وضعها الصحيح فرأى أن تقييم كلا من فيروز وأم كلثوم يقوم فقط على حجم ومساحة صوتيهما. فلم ينفر حجازي في الحقيقة من المقارنة بين فيروز وأم كلثوم، ولكنه نفر من وضع فيروز في مرتبة واحدة مع أم كلثوم. ولعل حجازي أراد بمنطقه الغريب أن يضع من أم كلثوم في منزلة أعلى من فيروز باعتبار أن الأولى امتلكت مساحة صوت أكبر من نلك التي تمتلكها الثانية. ويبدو أن كلثومية حجازي جعلته يتغاضى عن الكثير من الجماليات والمزايا التي تضع فيروز في مرتبة لم يضاهيها فيها مطرب أو مطربة أخرى بمن فيهم أم كلثوم نفسها. و تناسى حجازي أيضاً أن صوتي مطربتين بحجم فيروز وأم كلثوم لا يقاسا بحجمهما أو بعدد النوت الموسيقية أو الأوكتافات التي يمكنهما بلوغها، وإنما يقاسا برسالتيهما. وأعتقد أن محبي فيروز وأم كلثوم يعرفون جيداً رسالتيهما ويدركون تماماً أهميتهما والفوارق الجوهرية بينهما.
لن أنزلق شخصياً وراء الضغوط والمحاولات الفاشلة للمقارنة بين صوت فيروز وأصوات أي من المطربين أو المطربات، لإيماني بتفرد فيروز، وليقيني بأن ارتباطي صوت الجوهرة فيروز لا يدفعني أبداً للغيرة من أو للحقد على أي من الأصوات الأخرى. وبعيداً عن المقارنات العقيمة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وبعيداً عن التعدي على أي من القمم الغنائية دعونا نقول أنه إذا كان البعض يدّعون بأن صوت فيروز محدود القدرات، فإننا نقول أن صوت فيروز هو الصوت الصوفي الذي يسمو بالروح فوق الجسد، وهو الصوت الفريد الذي يسحبنا برومانسية من العالم المادي المليء بالآلام والأوجاع إلى العالم اللامادي حيث الجمال والحرية والحب، وهو أيضاً الصوت المرهف القادر دون غيره على حملنا بوداعة من العالم الحسي الغريزي إلى العالم الروحي اللامحسوس. إنه الصوت الذي تنشد على جاذبيته البلابل البريئة وتتفتح على سحره الورود الجميلة، وهو الصوت الذي يحلق بالروح في فضاء غير محدود ويسبح بها بين النجوم والكواكب، وهو الصوت الحنون الذي يطهر القلوب وينقيها من الذنوب، ويصالح الإنسان مع نفسه من دون آهات وتأوهات ولوعة وحسرة ومواجع وندم.
لقد غنت أصوات كثير للحب ولكن صوت سفيرة النجوم إلينا هو الذي يتغنى بالحب ويخطف القلوب من الصدور ويهديها إلى الحب النقي الحقيقي. وغنت أصوات كثيرة للوطن ولكن صوت جارة القمر هو الذي يتغنى بالوطن ويصنع منه ترنيمة جميلة ترتلها العقول والأفئدة قبل الأفواه.. وغنت أصوات كثيرة للطبيعة، ولكن صوت كوكب السماء هو الذي يتغنى بجمال وروعة الطبيعة ويوحدنا بها لأنه جزء لا يتجزأ من سرها الكبير. هذا الصوت هو صوت السيدة فيروز. لقد حمل صوت فيروز مواهب روح الله القدس، فتحول الصوت إلى نبع للقيم والمباديء الرائعة منها الحب والبراءة والصدق، والإيمان، والسلام، والوطنية، والجمال، والحنان، والرقة، والشفافية، والوداعة.
لكم عز علىّ أن أقرأ كلمات لشاعرنا المحبوب عبد المعطي حجازي تقلل من شأن كل هذا الذي يحمله صوت فيروز. لا أحد يختلف على مساحة صوت أم كلثوم، مصدر فخر الكلثوميين، ولكن من الضروري التأكيد هنا على أن صوت السيدة فيروز يختلف عن جميع الأصوات التي عرفتها الساحة الغنائية، فهو لا يصدح بغرض إبراز مساحته وجماله أو بغرض استهلاك أذان المستمعين. لقد سعى الكثيرون على مدى سنوات النصف قرن الماضية لتسمير السيدة فيروز على صليب القدرات الصوتية، ولكن هذه القدرات الصوتية صارت المصدر الذي ينهل منه الفيروزيون الحب والطرب والسعادة. إن صوت فيروز لا تحده الحدود التي وضعها الأستاذ عبد المعطي حجازي ولا يتعامل معها لأنه صوت يحمل رسالة بلا حدود نفخر بأن نقول أنه لم يسبق أن حملها صوت أخر، وهي رسالة الوطن والمواطن والفقير والمحكوم والحبيب. كما أن صوت فيروز لا يعرف الحدود لأنه مرادف لكل القيم والمباديء اللامحدودة التي طالما تغنى ويتغنى وسيظل يتغنى بها.
جوزيف بشارة
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات