لا يشك عاقلٌ، يتمتع بمقومات عقله، أن هذه الأمة، وفي زمن سحيق كانت البشرية تعيش البداوة والتوحش، قدّمت حضارة عظيمة سجّلت لنفسها سبقاً في ميادين الحياة، يشهد لها الغربييون قبل الشرقيين.
المسلمون حين وصلوا إلى أطراف باريس، في القرن الأول للهجرة، عابرين بلاد الأندلس (إسبانيا وبرتغال الآن) أسسوا حضارة هي الأعظم، واستمرت ثمانية قرون.
وصل رحّالون مسلمون بلاد الإسكندناف، ووجدوا قبائلها همجاً ليست لها لغات تتفاهم بها، وتغتسل ناسها بالكاد مرّة في كلّ عام، حاسبةً أوساخ أبدانها بركات السماء!


كانوا يستعملون الإشارات للتفاهم في ما بينهم. وإذا تجمعوا لشن حملةٍ على غيرهم، فلا يردعهم شئ في قتل الرجال والنساء، والأطفال والشيوخ أي رادع.


وكانوا دوماً ينهبون الممتلكات، ويحرقون البيوت، ويغتصبون الفتيات ويصنعون الخراب وينشرون الرعب والإرهاب.
هكذا وبأوامر الكنيسة تجمّع الصليبييون في عموم بلدان أوروبا، الغارقة في ظلمات الجهل والظلم، يجيّشون على حاضرة الإسلام، وأشمخ بلاد العالم بل والمتفردة بإمتلاك الحضارة والعلم والعدالة. في قرطبة وحدها كانت هناك أربعمائة ألف كتاب. طبٌّ وهندسةٌ ومعمار في أوج ما يكون. أكبر المساجد والمدارس في العالم، بناها المسلمون من العرب والبربر صروحها في أوروبا، الماضية في الجهل والشرّ والبداوة.


في عام 897 هـ سقطت أندلس في يد الوحوش التي يندر لها مثيل في التأريخ، إلا ما كان متصلاً بحيلةٍ أو أخرى بالمصدر الذي توّلدت منه تلك الوحوش وأمثالها!


وتأسست محاكم التفتيش، تلاحق حتى المسلمين المتـــنصّرين الذين أخفوا إسلامهم تقيّةً. محاكم التفتيش أذاقت المسلمين صنوف العذاب وألوان الهول. كان الواحد يُملأ بطنه بالماء حتى يغرق. كانت هناك أدوات لقلع اللسان، وربط الواحد داخل التابوت تدخل فيه المسامير ببطئ، ومطاحن لطحن الأجساد وعظامها، دفن المسلمين أحياء...!!!


في يوم واحد أحرق في غرناطة وقرطبة أكثر من ثمانين ألف كتاب، قام بحرقها (كننيس) أحد رؤوساء أساقفة الصليبيين!
في يومٍ واحدٍ فقط، أنتخب أجمل سبعة آلاف فتاة مسلمة، في غرناطة، وسُبينَ إلى ملك الصليبيين فرناندو وزوجته إلزابيث.
في قرطبة أغتصبت أربعة عشر ألف فتاة مسلمة. المساجد التي بناها أمجاد المسلمين حوّلت إلى كنائس!!!
البلاد التي حكمها المسلمون ثمانية قرون، بأرقى اشكال نظام يمكن للبشر إقامته على الأرض، إختفى فيها أمجادنا ولم يعد هناك من مسلمٍ واحد، وأبيدوا عن بكرة ابيهم!


إذا تحدثنا عن تلك الأهوال نحتاج إلى مئات المجلدات.
وفي المشرق حيث أمواج الصليبيين كانت تفتك بالمسلمين ذبحاً وحرقاً ونهبا، وفي إنتصار بطولي للمسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، لم يُعامل الصليبييون المنهزمون معاملة الذلّ والإهانة والفتك!


المسيحييون والأديان والطوائف الأخرى عاشوا بسلام ووئام تحت حكم الدولة الإسلامية، دون أن يتعرضوا إلى حرق أو هتك أعراض أو نهب ممتلكات. ولم تحرق مكتباتهم، ولم تُحتل كنائسم أو دور عبادتهم لتكون مساجد!
ولكن على مدار التأريخ كلّما كانت للغرب سطوة وسلطان، في عهد الصلبان أو في عهد التنوير أو في واقعنا المعاصر في ظل الديموقراطية والعولمة، كان نصيب المسلمين القتل والعذاب والتدمير والسجون والحراب.
في الجزائر قام الفرنسييون يقيمون (محاكم تفتيش) أخرى، وعلى أثرها سميت الجزائر ببلد المليون شهيد.
في عموم المغرب العربي، وفي ليبيا ومصر والسودان وبلاد الشام والعراق وكُردستان، أذاق الأوروبييون المسلمينَ شتى صنوف الإبادة والعذاب والخراب والنهب.


في البوسنة أبيد المسلمون ألوفاً ألوفا، وبُقرت بطون الحوامل، وقُتل الناس كما قتلوا في قرطبة وغرناطة قبل خمسة قرون. في الشيشان فتك الروس بالمدنيين، كما فتكت القيصرية بأجدادهم والمسلمين الآخرين من القوميات الأخرى. في أفغانستان وفي فلسطين وفي العراق شاهدنا ونشاهد بأم أعيننا كيف زحف الغربييون واحتلوا هذه البلدان بححج كاذبة، كشفوها بأنفسهم، ثم لم يتورعوا في إنزال الفتك العظيم بالمسلمين، وإغتصابهم وتدميرهم ونهب أموالهم وتدمير حياتهم.


وفوق ذلك أذلّوهم، وأطلقوا الألقاب عليهم كالإرهابيين، وأعداء الديموقراطية وما إلى ذلك. كما سمّوا بالأمس المسلمين بالمورسكيين في أندلس، إحتقاراً لهم. والمورسكي أي المسيحي المزوّر، ويعني المسلم المتـــنصّر، ليكون أدنى شأنا!
ومن قاوم هذا العدوان، أسموه بألقاب أصبحن اليوم علامات فارقة تفصل المسلمين عن الآخرين، في إشمئزاز وإزدراء وتحقير. وهذا جزاءً لهم وحتى يظلوا يشعرون أنهم أدنى شأناً وأنقص جوهرا!

وخرج علينا في صفوف نشاز، قبيحة الأوصاف، كريهة التجاليد والمنظر والأطراف، من الأذلاء المُستجْدينَ بأبواب الأجنبي يرغون: إن الغرب أعلى شأناً وأرقى ذوقاً. أناسٌ سبروا سطحاً رقيقاً من بقايا الآخرين، ونهلوا من مظاهرهم ما أسموه فكرا!
خرجوا في غلظةٍ أبدية، يحسبون كونهم من هذه الأصقاع عاراً، لا يغسله إلا تفريغ الغضب والشتم ضد كلّ من يقول: لا لهذا التأريخ الطويل من الإجرام بحق مكوناتنا الشرقية، في ظل إحتلال هذا الأجنبي الذي لم يبد رحمة يوما!


هؤلاء فطاحل المواء. يهوّلون إذا قيل شئ بحق الشماليين/الروم الشقر، أو كتب مقالٌ ينقد شططهم وهمجيّتهم بحق المسلمين، أو شكى من تجاوزاتهم على مقدساتنا، أو تظاهر الأنام ينددون بجرائم القوم ضد من لا حيلة لهم، مثل الملايين التي قضت نحبها بقنابل وصواريخ جيوش الديموقراطية. فطاحل المواء يفُسرون ذلك بالتخلف، والفوضى والغباء!

فطاحل المواء وكغيرهم، أمسوا طوعاً أو كرهاً عبيد الشاشات، تستقر في أذهانهم الصورة التي يُراد منها أن تغطي عقولهم، وتسلب فكرهم لوجهةٍ، الغربُ مولّيها شطر مفترق الطريق: غرب متفوق وشرق مهزوم، شمال طيب وجنوب خبيث!


وإلا فما السرّ في حضور حادث الحادي عشر من أيلول، في أذهان الجمع كلّ حين، حتى أمسى كعقيدة دينية تصنّف الناس والتخوم، ليصبحنّ همّنا بالتعويذة من إنتقام المنتصر لنا حظاً وفيراً وعزّاً مجيدا، بل وتسامحا ميمونا؟!


لكن المئات من الألوف من أبريائنا منذ ذلك اليوم وبعده، وقبله بقرون، يُقدَّمون ضحايا في مذبحة الغرب، لم تستكن شهوته بتذليلنا أكثر، لكنهم نُسيوا ولم تتحول صورتهم في الذاكرة كالحادي عشر من أيلول، وكأنهم ذبابُ تُركوا أو جيفة أزهدت نفوس الأحياء لفتتها.
هل تتذكرون عليّا (في العراق) بُترت ساعداه فاقداً كلّ عائلته، بقصف طائرة الغرب، ومن ثم طواه النسيان؟!
هل تتذكرون عرس عائلة في كابول، قصفته طائرات أميركا وقتلت أكثر من مائتي شخص؟!
هل تتذكرون قانا وإبادة عوائل بكاملها، في مذبحة فاقت ثلاثمائة من المدنيين؟!
هل نتذكر القصف العشوائي للفلسطينيين وذبحهم بالمئات والألوف؟!
هل تحولوا إلى رموز ضد الشرّ وحوادث ماثلة دائماً في الأذهان؟!
في قيم الغرب لا! وفي ذهن فطاحل المواء كلّا!


لكن الحادي عشر من أيلول، ولوكربي، وإنفجارات مدريد (مجريط بالعربية) ولندن، هي التي لُطمت لها الصدور وشقّت لها الجيوب في إعلام الغرب اللاغي، ولغو فطاحل المواء الهاذي!
ولم يُسمّ أحدٌ قائد الطائرة التي قصفت عرس أفغانستان إرهابياً، ولا الجنود الذين أقتيدوا بدافع تعاليم دينية، ورونق الأموال، بحجة البحث عن أسحة الدمار الشامل في العراق. ثم لم يجدوا غير المساكين أهلكهم حصارٌ ظالمٌ لعقد ونصف من الزمن!

سال الخراب، وفطاحلُ المواء ظلوا خاشعة أبصارهم، يرهبون خفية في أنفسهم سطوة السيد العظيم، فيبالغون في تنكيس رؤوسهم لكي ينالوا بركته، فظلوا يرددون ما يقوله المنتصر:
فلان إرهابي، متحجر، متخلف، قُروسطي، يقتل الأبرياء (يقصدون ضحايا الغرب)، عدوّ السلام والحضارة...!
يبالغ الفطاحل والصورة عندهم واحدةٌ لا تتغير، قسّمتها ريشة فنّانهم السيّد في تقسيمنا إلى فريقين أحدهما نجسٌ شرير (الشرق) وآخر مصدر الخير (الغرب)!

فرناندو المجرم حانث الحلف والعهد، مطيّر رؤوس المدنيين، ومُغتصب فروج الفتيات البِكر من المسلمين، رُسمت له منذ قرون لوحة منصوبة على الجدران المزخرفة من أعمال المسلمين، بوصف أقلّه إنحطاط الخُلق والخليقة:
فرناندو ممطتياً جواده، وممثل المسلمين جالساً على ركبتيه يسلّم مفتاح المدينة في ذلّ!


الغرب هو هكذا، فرناندو مجرم، متخلف لا يفقه شيئاً من الحضارة، أفضل من مسلم يبني حضارة لقومٍ يعيش البداوة والتوحش!
اللوحة معلّقة عالية في إسبانيا، ترمز بزهوّ لإنتصار الغرب، يمجده الأوروبييون!!
وعندنا فطاحل المواء لم ينبسوا ببنت شفة عن أكثر من مائتي ألف سجين سياسيّ في دول قومية/عَلمانية ببلاد المسلمين (تحكمها أنظمة لا دينية مدعومة من الغرب)، ومعظمهم من الإسلاميين!!


ولو رأى المرء ما يُفعل بهم، لاستهوته أحزان، وتملّكه غثيان، وقلبه حيران!
في الجزائر كي لا ينعم الإسلامييون بحلاوة النصر، أفتدي بمائة ألف برئ من الجزائريين، ترضية للإفرنجة. وفي سوريا العَلمنة والإشتراكية أبيدوا ألوفاً دون تفريق بين شيخ ورضيع وإمرأة ورجل، أو سقيمٍ أو صحيح. وقل ذلك عن الأنظمة الأخرى في بلادنا والديار الأخرى.


يُذبحون ويُهتكون ويُنبذون وتشوّه صورتهم في أقسى معاملة، وأحط مظهر.
وفطاحل المواء، يطلقون عنان خيالهم خلف قطار أولئك، كيف مضت سكة مصلحة الغرب وشهوته!
وليس لهم الحق ولا لنا، في توصيف مجرمي أقوام الغرب، أو وضع نعوت عليهم، مهما كان الخطب عظيماً، والنازلة ثقيلة، والوضع توحّشا!


وحتى لو وصفنا، لا يبلغ القول مسامع القوم، ولن ينال قيمة عملة شرعية للتداول!
ولكن إذا غضب وانفجر شرقيّ أو مسلم من شدة هول المأساة، فصرف كلّ طاقته أمام نيران الطائرات والمدافع التي تحتل بلاده، فرّغ الفطاحل (فلسفة كلامهم) في سبطانة المواء، يطلقون أشدّ حدة من العدى نيران التشهير، نحو المحاربين الشرقيين، أنهم quot;إرهابييون يجرّوننا نحو الهزيمة والتخلف والعارquot;!!!


قارنوا بين تقديس الغرب لفرناندو المجرم السّفاح، الذي قضى على الحضارة في أندلس، وإحتقار الغرب وفطاحل المواء للذين يرفضون هذه الهيمنة المتوحشة على بلادنا في الوقت الحاضر، والرموز كُثر لا حاجة لتسميتها!
قارنوا، تكتشفون الهزيمة العظيمة التي يموء في أعماقها فطاحل الديموقراطية والحداثة في بلادنا!

علي سيريني
[email protected]