فى السنة الثانية لبدء الحرب العراقية الايرانية ، زارنى فى بغداد رجل أعمال ألماني. صحبته لمشاهدة عرض للأسلحة الأيرانية التى غنمها الجيش العراقي ، فى ساحة دمشق. كانت هناك لافتة مكتوب عليها باللغتين العربية والانكليزية بأن الخميني عميل أمريكي. بدت الدهشة على وجه الألماني وسألنى متعجبا: هل انكم حقا تصدقون ذلك؟ كيف يكون الخميني عميلا لأمريكا والأيرانيين احتجزوا موظفي السفارة الأمريكية كرهائن؟ ولم أشأ ان أناقشه فى الأمر فقد اقترب منا شخصان ربما كانا من أجهزة الأمن أو المخابرات ، خاصة وان صاحبى يتكلم الانكليزية ويظهر عليه بوضوح انه اوروبي.

فى العهد الملكي ، وصم الكثيرون من الحكام ب(العمالة) ، فقالوا عن نوري السعيد: عميل انكليزي ، وعن فاضل الجمالي: عميل أمريكي ، و أطلق الشيوعيون العراقيون على كل حكام العهد الملكي: عملاء الانكليز والأمريكان ، وبالمقابل أطلق الحكام على الشيوعيين: عملاء الروس.

أقولها بصراحة وأمانة انه لولا سياسة نوري السعيد (العميل!) العقلانية الموالية للغرب والتى سار عليها حكام العهد الملكي لابتلعتنا ايران وتركيا.

المفترض بالحكام ، انهم يعملون لمصلحة بلدانهم بالدرجة الأولى. وهذه المصلحة هى التى دفعت الشريف حسين (شريف مكة) الى الاتفاق مع الانكليز للتخلص من نيرالحكم العثماني الذى جثم على صدور العرب ما يقرب من أربعة قرون ، وبنتيجة ذلك الحكم فقد تخلفوا عن ركب الحضارة العالمي ، فهل يصح ان يوصف الشريف حسين بأنه (عميل)؟ أضطر الملك فيصل الأول الى عقد معاهدات مع بريطانيا التى كانت تحتل العراق ، وكانت أعظم دولة فى العالم فى ذلك الحين ، وكان العراق من أضعف الدول فى العالم ، فهل يعتبر فيصل الأول (عميلا)؟ كان شعاره الذى عمل به: خذ ما تستطيع و طالب بالمزيد. وفشل الفلسطينيون عندما رفضوا التقسيم ورفضوا كل العروض الأخرى ، فضاعت فلسطين ولم يبق منها سوى قطعتي أرض تحكمهما حكومتان تتهم كل منهما الأخري ب(العمالة) ، ولو ساروا على نهج فيصل الأول وقبلوا بقرار التقسيم ، لربما لم تكن الآن اسرائيل تحتفل بميلادها الستين.

الفلسطينيون و (نكبة) أيار/مايو 1948

لقد قاوم الفلسطينيون ببسالة اقامة الدولة العبرية ، وفى الأيام الأولى برز فيهم قواد سياسيون مثل المفتي الحاج أمين الحسيني ومحاربون مثل فوزى القاووجي ، ولكن أوضاع العرب المتردية وتفرقهم وعدائهم للغرب وضعفهم العسكري الشديد من ناحية التدريب والسلاح ، يقابل ذلك غنى وثقافة اليهود واتحاد كلمتهم وتأثيرهم السياسي والفكري على الشرق والغرب وخاصة أمريكا ، وتفوقهم العسكري من ناحية التدريب والسلاح والقادة المدربين المتمرسين ، كل ذلك أهلهم لانشاء دولتهم. أما فى الدول العربية ، فلا أشك مطلقا ان الزعماء كافة كانوا يعرفون النتيجة سلفا ، ولكنهم كانوا يخشون مواجهة شعوبهم بالحقائق، فأرسلوا جيوشا ينقصها التدريب ويعوزها السلاح ، فخسروا المعركة حتى قبل أن تبدأ.

انطلق الشعراء والكتاب فى البلدان العربية كعادة أسلافهم الذين عاشوا قبل ألف وأربعمئة سنة و تزيد ونظموا الأشعار الحماسية وكتبوا المقالات النارية ، وانضم الى هؤلاء الشعراء والكتاب رجال الدين يحرضون ويوعدون المجاهدين بالحور العين ، ويحذرون القاعدين منهم من عذاب الجحيم. ولكن متى استطاع جيش أمي غير مدرب ولا يمك سلاحا حديثا ان يقهر جيشا متعلما مدربا ومسلحا بأحدث الأسلحة؟ اننا لا نعيش فى الماضي حينما كان الرجل يحتفظ بسيف فى بيته وحين نشوب حرب يمتشقه ويخرج للقتال.
ان الشيء الوحيد الذى اتفق عليه الزعماء العرب هو استيلاء مصر على قطاع غزة والأردن على الضفة الغربية ، وهي جزء من الأراضي التى قررت الأمم المتحدة اعطاؤها للعرب. وبعدها أخذوا يتلاومون ويلقون تبعات الهزيمة بعضهم على البعض الآخر، ويتهمون أحدهم الآخر(بالعمالة) والخيانة والجاسوسية.

الحكام المغامرون

الحكام الأشد بلاء على شعوبهم ، هم اولئك الذين يغامرون بأبناء بلدهم فيزجونهم فى معارك مع دول أكبر حجما وأكثر نفوسا وأحسن عدة وأمضى سلاحا ، فهم يشبهون الوعل الذى نطح صخرة ليهشمها فانكسر قرنه (كناطح صخرة يوما ليوهنها--- فما أوهنها وأوهن قرنه الوعل).

فى الحرب العالمية الثانية ، وعندما أصبحت القوات الألمانية على مشارف باريس ، بدلا من اقامة المتاريس والدفاع عنها لآخر باريسي وآخربناية ، قرر الفرنسيون تسليمها للألمان دون قتال ، فقد كانوا واثقين من استعادتها ثانية ، فلماذا يعرضونها للتدميرويعرضون أهلها للقتل؟ وفى نفس الحرب فوجىء سكان النرويج المسالمين بدخول القوات الألمانية البلاد ، وكانوا يدركون البون الشاسع بين جيشهم الصغيروبين أقوى جيش فى العالم آنذاك ، ففضلوا الاستسلام وانقذوا البلاد والعباد. وهناك أمثال كثيرة غيرها حيث لم يقامر الحكام بوطنهم ومواطنيهم. فهل نعتبراولئك الحكام الفرنسيين والنرويجيين (عملاء)؟ وهل أن اصرار صدام على مقارعة أمريكا التى لا يمكن مقارنتها بالعراق بأي وجه من الوجوه فى سنة 1991 و 2003 يدل على الوطنية؟ هل الوطنية تعريض البلد للدمار والسكان للفناء؟ ان الجهلة خارج العراق لن يرضوا على هذا الكلام ، لأنهم لا يهمهم ما يحدث للعراق ، فهم لم يعانوا من حروب صدام كما عانى ويعانى أهله. بل استمروا على وصفه بالبطل حامى البوابة الشرقية التى أضحت مفتوحة على مصراعيها تتدفق منها الأسلحة والمتفجرات لقتل العراقيين دون تمييز.


من هو (العميل) الخميني أم صدام؟

لم يكن الخمينى عميلا لاسرائيل عندما اشترى منها قطع غيار لطائراته الحربية الأمريكية ، ولم تكن اسرائيل محبة للخمينى وايران حينما باعت لهم قطع الغيار تلك ، وانما وجدتها فرصة ثمينة لانزال الأذى بالبلدين الجارين المسلمين. و بعد سنتين أو ثلاث من المعارك وبعد ان تبين لصدام استحالة احتلال ايران أو اخضاعها ، طلب من الخمينى ايقاف القتال واعلان الهدنة ، فرفض الخميني بكل حماقة ، وأدى ذلك الرفض الى ضياع أرواح مئات االألوف من مواطني البلدين.

لم يكن صدام حسين عميلا لأمريكا ، ولكنه هاجم ايران لاعتقاده الخاطىء بأنه سيكتسح ايران فى مدى شهرين أو ثلاثة مستفيدا من حداثة الثورة الايرانية وقتل و ابعاد كبار ضباط الجيش الايراني من مريدى الشاه المطاح بحكمه. ولما أدرك صدام خطأه غازل أمريكا طالبا العون منها ، وما أسرع ما أرسلت اليه رامسفيلد لعقد اتفاق سري ، وانهالت المساعدات الأمريكية عليه وبصورة خاصة المعلومات العسكرية التى كانت تلتقطها أقمارهم الصناعية عن تحركات الجيش الأيراني ، وفى نفس الوقت زودت الايرانيين بالمعلومات عن الجيش العراقي!. أمريكا ساعدته ليس من أجل سواد عيون العراقيين وانما نكاية بعدوتها ايران التى أذلتها بعد أن احتجزت موظفى سفارتها فى طهران ووجدت فرصة لا تضيع للانتقام وتدميرجيوش البلدين دون خسارة قطرة دم أمريكية واحدة.

الحرب الحمقاء

كان على الخميني وصدام حسين ان يدركا ان العالم لن يسمح لأي منهما من الاستيلاء على بلد الآخر مهما كلف الأمر، ولكن الأثنين لم يكونا يفهمان شيئا لا فى السياسة ولا فى العسكرية ولا فى الأقتصاد ، لأنهما وصلا الى السلطة بدون ان يملكا اية مؤهلات لها ، ولم ينتخبا من قبل شعبيهما ، بل وصل الأول عن طريق الدين ، والناس تخشى معارضة رجال الدين خوفا من عذاب الجحيم ، والثاني عن طريق الغدر والعنف والقوة والارعاب ، والعقلاء من الناس لا يجادلون الغدارين الارعابيين القتلة. كان على الأثنين اللجوء الى الأمم المتحدة و تحكيم وتوسيط البلدان الأخرى بدلا من خسارة ما يزيد على المليون من العسكريين و بقدر ذلك من المدنيين ، وتدمير البنية التحتية للبلدين. لقد أجرم الطرفان بحق بلديهما وشعبيهما ، ولن يغفر لهما التأريخ ذلك.

غزو الكويت

توقفت الحرب مع ايران بعد مضي ثمانى سنوات ، وبعد ان قتل مئات الآلوف من العراقيين ، ومن النادر ان تجد عائلة عراقية لم تفقد واحدا من أفرادها على الأقل. واستنفدت الحرب خزينة الدولة ، وأصبح العراق مدينا بمليارات الدولارات خاصة لدول الخليج التى شجعت صدام (حارس البوابة الشرقية) على خوضها حماية لمصالحها. سقطت هيبة صدام بعد تدمير جيشه وخراب بلده وتنازله عن بعض الأراضى ونصف شط العرب لأيران ، ومع ذلك احتفل بما سماه بعيد النصر على (الفرس المجوس). واختلف مع الكويت حول موضوع الديون وتدخل الأشقاء لحل الأزمة ، فبعث صدام بنائبه عزة الدوري ، الذى كان يرتدى البدلة العسكرية حاملا رتبة عالية جدا ، وهو الذى لم يصل ولا حتى لرتبة نائب عريف ، وكان نقاشه مع الكويتيين يدل على قلة أدبه وفساد تربيته. وتحمله الكويتيون بصبر، وعاد الى سيده صدام الذى كان يرتدى البدلة العسكرية أيضا وقد منح نفسه رتبة (مهيب ركن) وهو الذى لم يكن عسكريا فى يوم من الأيام ، وأخبره بفشل المفاوضات وحبذ له استعمال القوة وأيده أعوان صدام ، وشجعوا البطل المقدام على غزو الكويت لتأديبها!!. وكان ما كان من نهب وتدمير للكويت وما حصل من مذابح للجيش العراقي المنسحب الى البصرة ، من قبل الطائرات الأمريكية التى بدأت بتدمير العراق شبرا شبرا وأعادوا العراق ، كما هدد بوش الأب ، الى العصر الحجري.


بعد توقف الأمريكان عن القصف والقتال بشروط مهينة ، صب صدام جام غضبه على أهل الجنوب وعلى الأكراد فى الشمال وقتل مئات الألوف منهم ، ومنذ بدء غزو الكويت فى 2 آب/اغسطس 1990 وفرض الحصار عليه ، بدأ العراق بالانحدار الحاد ، فكانت أسوأ ثلاثة عشر عاما مرت بتأريخ العراق.
وبدأ العراقيون يعانون بشدة من الحصار الذى فرضته أمريكا وحلفاؤها ، وشح الماء والغذاء والدواء ، ومات مئات الألوف من الأطفال ، وهوى سعر الصرف للدينار العراقي من أكثر من ثلاثة دولارات للدينار الواحد الى ثلاثة آلاف دينار للدولار الواحد ، ولم يتوقف صدام عن بناء القصور والاحتفالات الباذخة بذكرى ميلاده فى كل عام وألزم كل العراقيين بايقاد الشموع فى بيوتهم فى تلك المناسبة (الوطنية)!!. وهكذا وصل العراق الى الدرك الأسفل بسبب أخطاء حكم صدام وعائلته والملتفين حوله ، ولم يكن العراق جنة على عهده كما يشيع الجهلاء والمغرضون.

بعد 9 نيسان/ابريل 2003

لقد فتحت تلك الحروب الجنونية أبواب الجحيم على المنطقة وزعزعت كياناتها ، وكان العراق وأهل العراق أشد تضررا من الجميع ، فبعد سقوط حكم البعث الدموي فى 9 نيسان 2003 وهروب القائد الضرورة ، بدأ يظهر على الحلبة سياسيون جدد ، منهم من صرح علنا بطائفيته ، ومنهم من سهل دخول الانتحاريين المجرمين ، وظهر مشايخ من كل الطوائف لم يلموا بعد بأمور الدين ونصبوا من أنفسهم حراسا عليه ووكلاء على أبناء طوائفهم الذين لم يعرفوهم ولم يسمعوا بهم سابقا ، وغرضهم الحقيقي هو الاستيلاء على السلطة كما فعل ملالي ايران. وقام بعضهم بأعمال اجرامية فظيعة من قتل ونهب وتسليب وتعذيب واختطاف وتهريب ، لا يردعهم دين ولا تردعهم أخلاق. قاموا بتأجيج الطائفية وحرضوا الناس بعضهم على بعض ، ودمروا ما بقي من البنية التحتية للبلد. وقام البعض منهم باحتضان مجرمي القاعدة وبقايا حثالات حزب البعث ، وانضم اليهم اللصوص والقتلة ممن أطلق صدام سراحهم قبل سقوطه. ثم بدأت ايران بالصراع مع أمريكا جاعلة من العراق ساحة قتال لها وزودت كل من يريد بالأسلحة الفتاكة والعبوات الناسفة ، فعم الخراب وخيم على الناس الخوف والجزع ، وأصابهم
اليأس ، فهاجرمنهم من استطاع الى الهجرة سبيلا ، وبقي الآخرون يعانون ولا من معين.

بصيص من نور

منذ أن بدأت حكومة المالكي بتطهير البصرة من اللصوص وقطاع الطرق والمهربين سواء من أصحاب العمائم أو غيرهم ، فقد لاح للعراقيين بصيص من نورفى نهاية النفق ، عندما تأكد من أن الحكومة جادة بالقضاء على الفتن ومثيريها بغض النظر عن دينهم او طائفتهم او قوميتهم ، فالكل سواسية أمام القانون. و هدأت الأمور أو اوشكت على الهدوء فى مدينة الثورة بعد أن طورد افراد جيش المهدي وقتل منهم الكثيرون وجرحوا، و بدأت الموصل تسعى للتخلص ممن أمعنوا بتخريبها وقتل أهلها ، وقام المالكي بنفسه بقيادة المعركة كما فعل فى البصرة. والأمل أن يقف السياسيون العراقيون على اختلاف أديانهم وطوائفهم وقومياتهم صفا واحدا لطرد الغرباء والمتطفلين ، واذا ما فعلوا ذلك فلا أظن ان عام 2008 سينتهى الا ويعود ، كل العراق ، شعبا واحدا وقد لفظ لفظ النواة الغرباء ممن جاؤوا لتفجيرانفسهم الرخيصة فى اسواقه وشوارعه ودور العبادة والمدارس والمستشفيات ، وقطعوا رؤوس الأبرياء ، ولم تأخذهم رأفة ولا رحمة بشيخ او طفل او امرأة. وسيعود العراق مرة أخرى منارا للعلم والمعرفة والحضارة كما كان فى عصوره الذهبية السالفة.

عاطف العزي

كندا