عبر التاريخ، دائما ما كان الدين تعبيرا عن القوة وممزوجا بالسلطة السياسية، ولم يكن ذلك عجيبا، بل العجيب أن يطالب البعض في الوقت الراهن بفصل الدين عن السياسة، وبالذات في المجتمعات المسلمة، الأمر الذي يتنافى مع المسار التاريخي للشريعة الإسلامية. فالدين يعتبر أحد القوى الكبرى المؤثرة في تطور وتغير المجتمعات على مر التاريخ، لذا كان اختلاطه بالسياسة أمر طبيعي. وقد كان للدين المسيحي قبل ظهور الإسلام تأثير كبير على امبراطورية الروم الشرقية بعد أن تبنى الانبراطور قسطنطين المسيحية دينا للدولة عام 313 وجعل الحكم سلطة سياسية بإيديولوجيا دينية. كذلك كان للدين اليهودي ملوك/ أنبياء مثل داوود وسليمان. فيما شكل نبي الإسلام دولة إسلامية، وأصبح الدين عاملا رئيسيا في توسيع الرقعة الجغرافية للدولة. غير أن الأمور تغيرت في العصر الحديث، وبرز فصل الدين عن السياسة، وتغيّر تأثير الدين على الحياة السياسية بل على مجمل مسائل الحياة.
وهنا نثير التساؤلات التالية: لماذا ظهرت العلمانية في العصر الحديث، وبرزت مسألة فصل الدين عن السياسة؟ وكيف حصلت على تأييد واسع من قبل الإنسان بحيث لم يعارضها أو لم تكن هناك حاجة إلى أدلة على ضرورتها وأهميتها؟ لماذا لم تكن العلمانية حالة طبيعية في الماضي؟ ولماذا كان المزج بين الدين والسياسة من القضايا الطبيعية quot;البديهيةquot;؟ إن انجازا على صعيد الفكر والثقافة البشرية قد حصل ما أدى إلى ظهور تلك النتيجة.
لاشك أن البشرية حينما تنتقل من مرحلة ثقافية قديمة إلى أخرى جديدة فإن quot;بديهياتquot; المرحلة الماضية قد تصبح quot;غير بديهيةquot; في المرحلة الجديدة، وستتحول قواعد وأسس المرحلة الماضية إلى استثناءات في المرحلة التاريخية الجديدة، وهذه قد تتحول إلى قواعد وأسس جديدة. ومع انتقال البشرية من مرحلة ما قبل الحداثة إلى مرحلة الحداثة في هذا العصر، فإن الكثير من quot;البديهياتquot; التاريخية أصبحت استثناءات، في حين ظهرت quot;بديهياتquot; جديدة في الواقع الراهن كانت تعتبر في الماضي استثناءات.
إن الدليل على أن مسائل معينة أصبحت quot;بديهيةquot; في الحياة العامة في عصرنا، هو أنها أصبحت تعتبر ضمن القضايا التي يطلق عليها بالقضايا الطبيعية، أي ما عاد الناس يعتقدون بأنها تتنافر مع الواقع أو أنها تحتاج إلى أدلة تثبت طبيعيّتها. ومن quot;البديهياتquot; الراهنة التي ارتبطت بالدين ولم تكن quot;بديهيةquot; في الماضي، عدم قبول أن يكون الدين وسيلة للإستغلال في أيدي الساسة، وعدم جعله طريقا للثراء.
إن الصراع الذي نشب بين العلم والدين في العالم الغربي في القرون الوسطى كان له تأثير كبير على انتقال الإنسان من مرحلة ثقافية وفكرية معينة (قديمة) إلى أخرى (جديدة)، من مرحلة ما قبل الحداثة إلى مرحلة الحداثة. فالصراع كانت له آثاره على العديد من القضايا والمسائل. والكثير مما احتوى عليه الكتاب المقدس لم يكن يتماشى مع العلوم الجديدة، وهو ما أدى إلى انقسام الناس في تحديد توجهاتهم: إما القبول بما يقوله الإنجيل والتوراة، وإما تأييد العلوم الجديدة. وهو ما أدى مع مرور الوقت إلى حدوث زلزال عنيف في إيمان الغربيين بـquot;حقيقةquot; الكتاب المقدس، الأمر الذي أدى إلى صعوبة عودة الماضي الديني المنهدم واستحالة إصلاح quot;الحقائقquot; المنكسرة. فالحياة الفكرية الثقافية انتقلت من مرحلة قديمة إلى أخرى جديدة، تهدمت خلالها quot;بديهياتquot; دينية وفكرية معينة وتم تأسيس quot;بديهياتquot; جديدة، وتبدّل الفهم الديني والعلمي القديم إلى فهم جديد، وتمّ بناء منظومة جديدة من quot;الحقائقquot; تتماشى مع الواقع الجديد بعد أن تم تجاوز quot;الحقائقquot; القديمة واعتبارها غير صالحة لكل زمان. بعبارة أخرى، كان الصراع بين العلم والدين صراعا بين quot;حقيقتينquot; (أذكته بالدرجة الأولى أفكار كوبرنيكوس وغاليليو حول كروية الأرض ونظرية التطور عند داروين)، وكل واحد منهما كان يدافع عن quot;حقيقتهquot;، وقد صبت نتيجة ذلك في وعاء تطور العلم وإصلاح الفهم الديني. فالغرب أصبح يعيش راهنا في ظل دين لا يحتكر الحقيقة، وعلم لا يتسلط على الدين أو يسعى إلى إلغائه.
من النتائج المهمة التي أفرزها ذلك الصراع أنّ الإنسان أصبح محورا رئيسيا في جميع قضايا الحياة الحديثة، حيث مع بداية عصر النهضة أصبح احترام حقوق الإنسان ميزانا جديدا يستخدم كوسيلة لقياس جميع القضايا والمسائل، من سياسية وأخلاقية وفكرية ودينية. فجميع الأشياء يجب أن تقاس في إطار احترام حقوق الإنسان لا في إطار quot;الحقيقةquot;. وحتى quot;الحقيقةquot; نفسها لابد أن تخدم الإنسان لا أن تضرّه وتقف في طريق تطوره وتقدمه. ففي عصر ما قبل الحداثة كان الإنسان مستسلما quot;للحقيقةquot;، في حين لابد quot;للحقيقةquot; في الوقت الراهن أن تستسلم للإنسان.
في الجانب الإسلامي لم تمض الأمور في هذا الاتجاه. فالنظرة الدينية الشمولية غير الإنسانية لا تزال هي المهيمنة. وسبب ذلك هو سيطرة التفسير المناهض للإنسان على الفكر الديني وعدم وجود رؤية واضحة لدى مدرسة التفسير الديني تجاه العالم الحديث والإنسان الجديد. فتفسير الدين لايزال غير حداثي ومناهضا لقيم الحياة الجديدة وحقوق الإنسان، بمعنى أنه لايزال يتبنى الرؤية التاريخية غير الإنسانية للحياة، والتي لا تهتم سوى بتركيب الماضي الاجتماعي الديني على الحاضر، وهو ما أدى إلى أن يصبح التفسير، ليس وحده بل والدين أيضا، غير إنسانيين.
إن معظم أركان المشكلة المتمثلة في أن الدين وتفسيره أصبحا غير إنسانيين، تقع على عاتق الفقه والفقيه. فكيف يمكن لعقيدة الإنسان وآرائه وخصوصياته وحقوقه الفكرية والاجتماعية أن تكون محل احترام وتقدير واعتراف، ما لم تتغير نظرة الفقه والفقيه تجاه الإنسان كإنسان، من أجل استبدال النظرة التاريخية الدونية إلى نظرة حقوقية حديثة تكون فيها حرية الإنسان وكرامته هي الأصل. فمثلا نظرة الفقه والفقيه إلى المرتد لا تزال نظرة قديمة، إذ هي مستندة إلى نظرة اجتماعية تاريخية الغائية، لا نظرة واقعية راهنة تعتمد الحرية والتعايش والتعدد والتنوع أساسا لتفسيرها. كذلك ينطبق الأمر على النظرة الفقهية إلى الكافر والملحد والمسيحي واليهودي، بل كذلك على نظرة الفقه السني أو الشيعي إلى بعض الطوائف الإسلامية كالمتصوفة والإسماعيلية والزيدية. فهل بعد ذلك كله يحق للفقيه التاريخي أن يدعي بأنه يحترم حقوق الإنسان؟
إن نظرة الفقيه إلى الإنسان يجب أن تتبدل، ومن شأن ذلك أن يساعد على الدخول إلى واقع الإنسان الجديد، كما سيسهل عملية تغيير أصول الفقه وأحكامه، من أجل أن يصار إلى احترام الدين أو التفسير الديني لحقوق الإنسان. وبغير ذلك، لا نستطيع إلا أن نزعم بأن ديننا الذي فهمناه من خلال الفقهاء والمفسرين هو دين غير إنساني.
فاخر السلطان
كاتب كويتي
[email protected]
التعليقات