1-
أن تكون مذيعاً فهذا جيد، لكن ما سأنتقده هنا هي هوامش على مهنة المذيع، في ديوان بلند الحيدري شذرة من شعر يحكي فيها ملل الأذن من المذيع، لم أكلف نفسي عناء البحث عن تلك الشذرة في ديوان علاه الغبار، الذي أودّ أن أغرق فيه، أن أقتصّ من quot;المذيعquot; الذي أجدني على علاقة متوترة معه، لأن quot;المذيعquot; يستخدم اللسان والبلعوم وأنا لدي مشكلة متأصّلة مع quot;الأصواتquot; صوت واحد كفيل باغتيال يومي لأبقى حبيس انفعال غامض جراء زعقة تسربت إلى أذني، أما أن يصرخ أحدهم بأذنك quot;مفشياً السلامquot; بشكل فيه الكثير من الصراخ فإنني سأبادر إلى التكويش والفزع فالأصوات التي قاطعْتها في وحدتي منذ بضع سنوات لم تعد تثير اهتمامي، حتى الفن الزاعق يثير الاشمئزاز، لا أدري إلى هذه الساعة كيف يتمكن الناس من سماع بعض المغنين التعساء الذين يحتفظون بقدرة كبيرة وإمكانيات نادرة على التصويت والاستبواق، بينما لا يطيقون صوتاً هادئاً مثل صوت فيروز أو طلال مداح.

2-
أما المعلق الرياضي فطالما نال شتائمي التي لا أبخل بها عليه أبداً، فحينما ألفّ على القنوات بشكل سريع لأرى إن كان بالإمكان وجود ما يستحق، يفاجئني أحياناً صوت المعلّق اللاهث، وهو يبرطم بلكنات متعددة الأشكال والطرق، فتارة تراه في حالةٍ من القنوت والابتهال، ومرةً أخرى في حالة إفتاء، وأخرى يشارف على الإغماء بعد أن تأتي كرة تشبه الهدف، وبعضهم يبتهج لسبب أو لغير سبب، فسرعان ما أغيّر هذا الزعق، وإن اضطررت لمتابعة مباراة مثلاً للمنتخب السعودي ndash;حينما تجتاحني مشاعر وطنية زائدة عن اللزوم- أكتم الصوت، فأنا ممتن لمن وضع في الريموت كنترول خدمة quot;الكتمquot; أو quot;الإخراسquot;، وأعني به الزرّ النافر الذي يكتم الصوت بسرعة، من دون الوقوع تحت رحمة خفض الصوت المتدرج الذي ربما لا تفي بغرض الكتم الوسيلة الوحيدة اللائقة بحفلات الصراخ، وقناتنا الرياضية (السعودية) ملئت بالسذج والعامة من المعلقين العاطلين عن العمل، الذين صار التلفزيون بالنسبة لهم أحد روافد الضمان الاجتماعي لذا يسترزقون بإفزاعنا، ويقتاتون على محاربة الهدوء الذي ننعم به.

3-
أما عن القناة الأولى التي نشأنا على برامجها، تليها القناة الثانية، وتسمى القناة الأولى بـquot;غصب رقم 1quot; والقناة الثانية quot;غصب رقم 2quot; وهذا الاغتصاب الذي تمارسه القنوات هذه لحسن الحظ لم يستمر، صحيح أن التلفزيون لا زال يحتفظ بنسبة مشاهدة عالية-وفق الإحصائيات- خاصةً إذا أخذنا بالاعتبار quot;صوالين الحلاقةquot; التي تقدم خدمة quot;مشاهدة القناة الأولىquot; نعرف أن نسبة المشاهدة عالية، فقط تحتاج إلى حسبة بسيطة تعرف فيها عدد صوالين الحلاقة لتعرف نسبة المشاهدة على نحوٍ جيد، تضم قناتنا الأولى بعض البرامج المملة، أبرزها البرنامج السياسي الذي يثير تثاؤبي ويحرس نعاسي ويحافظ على مستوى تحضّري للنوم، فكم يسرني هذا البرنامج، هذا البرنامج لا يجذب أحداً باستثناء النعاس، لذا أحرص على مشاهدته قبل إغلاق الأنوار والخلود بأمانٍ إلى النوم. ويبدو أن استراتيجية التلفزيون السعودي تقوم على انتقاء المذيعين الذين يعانون من quot;احتباس صوتيquot; وهي ليست عيباً على المستوى الإنساني، ولكن يبدو لي أن القناة الوحيدة التي توظف بعض من لديهم احتباس صوتي بمناصب عالية في التلفزيون هي القناة الأولى، لأن إذاعة الخبر تتطلب بلعوماً يجيد إخراج الـ28 حرفاً العربية على نحو واضح، وهو ما لا يتحقق لمن لديه احتباس صوتي أو لكنة أو ثقل في إخراج الصوت. فمن الحقوق التي كفلها التلفزيون لأذن المشاهد إيجاد مذيع قادر على إخراج الحروف بشكل سليم، بعضهم لا يفرق بين إخراج الحرف من موقعه الصحيح، وبين إخراج النفَس، لذا يخلطون بين الصراخ وبين الإلقاء.

4-
سمعت عن برنامج اسمه quot;العرابquot; على قناة إم بي سي التي أحترمها جداً، وأردت رؤية هذا البرنامج، اسم البرنامج أخّاذ فمن من العالم لم يشاهد سلسلة quot;العرابquot; التحفة الفنية السينمائية الاستثنائية، ووجدتُ أن برنامجاً يحمل هذا الاسم جدير بالاكتشاف، لم أشاهد الحلقة التي تحوّل فيها محمد عبده إلى عضو في هيئة كبار العلماء حينما حرّم 95 بالمائة من الأغاني، باستثناء أغانيه هو وأغاني أم كلثوم وفيروز، لكنني شاهدت الحلقة التي ظهرت فيها quot;أحلامquot; كبيرة الزاعقات العربيات، وهي أسطورة في الصراخ والهيجان الصوتي والعبث اللساني، فأجهزتها التصويتية متوزعة تماماً، وقد وقعت فريسة حوارٍ ممل، ابتداء من هذا المذيع الذي ميّز نفسه بكرسيٍ أكبر منه، وبدا في حالة يرثى لها.


أثناء وقوعي فريسة متابعته هذه استفزني أنه بدا وكأنه هو الضيف، وأن أحلام هي المذيعة، وقد انشغل بإدارته للتصفيق المبرْمج كما أكثر من التحرّك يمنة ويسرة. لا أدري هل كان يقابل مع مروان البرغوثي أم مع محمود عباس أم مع أحلام، فهي ادّعت أنها ناضلت وكافحت من أجل القضية الفلسطينية، وهو في حالة يرثى لها من التصديق والتحديق، قد بدا في حالة من التكلف الفضيع وادعاء التركيز، واستدرار دموع التماسيح، وهو بأسلوبه، وطريقة حديثة، وبالتمطيط الذي يمارسه بين كلمة وأخرى يبدو أنه يعاني من امتلاء ذاتي هو فوق احتياجات المذيع، فالمذيع ليس هو الضيف، حتى يكثر من الحديث وإلقاء الندوات في البرنامج، وتكلّف ادعاء سرعة البديهة، لطالما حاول أن يثبتها في برنامجه المليء بالديكورات والكراسي والورود اليابسة.


إنه برنامج لا يليق بمجموعة quot;الإم بي سيquot; فكثافة الديكور، وإهدار الوقت في الصعود والهبوط من الدرج، والإكثار من حركة المذيع تستفزّ المشاهد، كما أن المذيع يجب أن يعرف المساحات التي يتحرك فيها الفنان، لا أن نفاجأ ذات مساء بالفنان العامي وقد أصبح فيلسوفاً ومفتياً وإنما يحرّك المذيع الإيقاع الجميل، بدل حفلات استعراض الورود والديكور والسلالم الاسمنتية. كما أتمنى أن نكفّ عن استئجار المصفّقين والضيوف الذين يخيفون الأطفال والعجائز والمرضى والمسنين، كما أن دور المذيع ليس الإكثار من عضّ الشفائف وضرب الطاولة بالقلم، وأن لا يكون كالصبي لا يستقرّ على كرسيه بل أن يكون دوره طرح الأسئلة المجدية، وليس استحلاب التصفيق من جمهور عاطل عن العمل.

فهد الشقيران
كاتب سعودي.
[email protected]