أمجد ناصر

لو أن الحب أبرق بينهما وأرعد، لو ان تلك الغيمة المتمنعة امطرت، لما كنا امام قصة الحب هذه.
قرأت مرة لكاتب يقول ان النساء اللواتي احبهن اكثر هن اللائي تمنعن عليه!
هل هذه خصيصة بشرية، ذكورية بالتحديد؟
من الصعب الاجابة. فقصص الحب تقدم لنا وجوها مختلفة ومصائر متباعدة رغم صدورها من ذلك الخافق نفسه.
لا نعرف كيف يمكن ان تكون عليه قصة حب (ريكاردو) في رواية بارغاس يوسا شيطنات الطفلة الخبيثة الفتاة (التشيلية) التي تسطع في افق مراهقته كنيزك ثم تختفي ، ثم تعاود الظهور والاختفاء في سلسلة طويلة من (الاحتجاب والتجلي)، لو انه تيقن من حبها له من النظرة الاولي؟
ارجّح انه لن تكون هناك قصة حب تروي.
فماذا سيقول لنا الكاتب؟
لا اظن انه سيقول شيئا مهما علي صعيد الكتابة.
لكن ليس هذا ما اريد التوقف امامه الان بل (اوجه الشبه) التي ازعمها بين قصتي حب وروايتين: واحدة ليوسا نفسه والثانية لماركيز.
قد تكون الفوارق الشخصية والسياسية والاسلوبية بين ماركيز وبارغاس يوسا أكبر من القواسم التي تجمع كاتبين ينتميان الي جيل أدبي واحد وفضاء لاتيني متعدد الأعراق والثقافات.
كانت هناك، ذات يوم بعيد، صداقة بين ماركيز ويوسا عندما جمعتهما هموم الكتابة ومناخات اليسار السياسي التي خيمت علي مثقفي امريكا اللاتينية في الستينات. بقي ماركيز علي يساريته، وان اتخذت طابعا انسانيا، فيما انقلب بارغاس يوسا، علي ما يبدو، الي النقيض.
ورغم العوالم اللاتينية المشتركة التي يمتح الكاتبان اعمالهما منها الا انهما مختلفان في الاسلوب والتعبير. لا تشبه رواية ماركيز رواية يوسا. ففي حين تتحلل شخوص ماركيز في العزلة وتتعفن حيواتهم تحت شمس الكاريبي ورطوبته، جيلا بعد آخر كنوع من القدر المحتوم، يطبع القمع السياسي الوحشي والهاجس الجنسي (الفرويدي) معظم شخوص يوسا. الحب أوضح عند ماركيز، فيما الجنس، بتلاطماته الداخلية والخارجية، يطغي عند يوسا. ورغم صعوبة الحديث عن حب بلا جنس، أصلا، إلاَّ أن دوافع الحب عند شخوص ماركيز غير مطبوعة بهلاوس جنسية. الحب، عند ماركيز، يعني التغلب علي الوحشة والوحدة. انه، في ظني، فعل انتظار وتطهر ووصال انساني. ليس هذا هو الحب عند يوسا الذي يمكن له أن يبلغ، في بعض أعماله، حد انتهاك المحرم.
لا يبدو أن هناك وجه شبه بين رواية الحب في زمن الكوليرا لماركيز ورواية شيطنات الطفلة الخبيثة ليوسا. زمنيا هناك أكثر من عشرين عاما تفصل بين الروايتين. الأسبق زمنيا هي رواية ماركيز الصادرة عام 1985، فيما صدرت رواية يوسا قبل نحو عامين. ومن دون سائر أعماله ليس في رواية ماركيز الحب في زمن الكوليرا احالات سياسية ولا استبطان للحروب الاهلية التي طبعت بلاده كولومبيا وأجزاء من امريكا اللاتينية وعبر عنها في أكثر من عمل. انها رواية عن الحب والانتظار. رجل ينتظر حبيبته نحو نصف قرن كي يضمها، أخيرا، بين ذراعيه. تكون خلال ذلك قد تزوجت وانجبت اطفالا صاروا رجالا ومات زوجها وتغضنت وجوه وارتجفت أعضاء واعماق ومرت مياه كثيرة تحت الجسر. لكن الحبيب المنتظر لا ييأس. لا تدخل قبله المتبتل (وليس سريره) امرأة اخري. الانتظارات المديدة هي لعبة ماركيز الأثيرة. تذكروا الكولونيل الذي ليس لديه من يكاتبه. تذكروا، أيضا، عجوز ذكريات عاهراتي الحزينات .انتظر الأول، عمره كله، راتبا تقاعديا لا يجيء. أما الثاني فقد كان عليه أن يبلغ التسعين من العمر ليعرف رقصة القلب وراء الحجاب الحاجز.
في شيطانات الطفلة الخبيثة هناك حب مزمن ينتظر لحظته المناسبة، ولكن تلك اللحظة لا تأتي إلاَّ مع مجيء الموت. بطل رواية يوسا يقع في حب معذب (ماسوشي الي حد ما) يأخذه الي أماكن قصية من العالم. حب يطوي الأيام والسنين ولا يتحقق. يطل برأسه هنا وهناك ولكنه يظل عصيا علي الامساك.
ظاهريا، لا يبدو أن ثمة ما هو مشترك بين الروايتين ولا بين البطلين. لكن في العمق، بلي. انه الانتظار. انه الحب الذي يرتقي سلم المستحيل ولا يصل إلا علي آخر نفس.
لا أدري إن كان بقي شبح حب في زمن الكوليرا يتراءي في خلفية ذاكرة بارغاس يوسا حتي كتب روايته الأخيرة. قد لا يكون. لكني لم أستطع، كقاريء، أن أتخلص من فكرة تشابه الانتظارين والحبين. هناك أفكار، أعمال، رؤي تظل تلح، علي نحو غامض، في أذهاننا حتي تتظهر، في غرف رؤوسنا السوداء، بصورة اخري.
هذا هو مكر الذاكرة.
وهذا أحد أسرار الكتابة التي تضمر، من حيث تدري أو لا تدري، كتابة سابقة.
ألم يفعل ماركيز هذا الأمر؟
لقد ظل شبح النائمات الجميلات لياسوناري كاواباتا يدوّم في داخله الي أن كتب روايته الأخيرة ذكريات عاهراتي الحزينات . انها، في الواقع، أكثر من زيارة شبح. إنها رواية علي رواية. الشعراء العرب القدامي لم يكونوا يتورعون عن الإغارة علي صورة، تشبيه، مجاز، بيت لغيرهم، أعجبهم، أو لم يروا أن صاحبه استطاع استثماره كما يجب.
اقرأوا الروايتين المذكورتين وانسوا مسرحهما. ولكن تتبعوا طرف ذلك الخيط السري الذي يؤدي الي حب معمَّد بانتظار مديد.