تركي عبدالعزيز الثنيان
احتكارية سابك أدت إلى أمراض في اقتصادنا. والاحتكار فيروس مدمر يضعف المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ويفتك بالمنافسة، وهما العنصران الأهم في العملية التنموية. أكتب هذا بعد أن قرأت خبرا يقول إن قرابة 800 مصنع بلاستيك تختنق بسبب سابك، فأولا، تبيع عليهم سابك البلاستيك بالأسعار العالمية، رغم أنها تحصل على المواد الأولية بأسعار تقارب 11% من أسعارها العالمية، كما يقول نائب رئيس اللجنة الوطنية للصناعات البلاستيكية والكيميائية علي بن سليمان الشهري، ثانيا، ترفض سابك وضع تسعيرة سنوية أو ربع سنوية، مدعية أن الأسعار العالمية تتغير- وتنسى أن أسعار أرامكو لها لا تتغير! الأخطر، ثالثا، قامت سابك بخفض الكميات التي تباع لهذه المصانع، بنسبة وصلت إلى 50% دون مبالاة بالتزامات تلك المصانع وعقودها وتكاليفها الثابتة، كما يؤكد عبدالله الصانع نائب رئيس اللجنة الصناعية بالغرفة التجارية... ولأنها محتكرة، أو تقود الأقلية المحتكرة، فهي لا تأبه لأنين تلك المصانع فهم لا يملكون إلا مصدرا وحيدا لكي يصنعوا خبزهم، وبالتالي فلا خوف ولا وجل.... وهذا بالضبط هو سبب محاربة الاحتكار - ألا يوجد لدى أي منشأة هذا الشعور بالهيمنة المسيطرة على المستهلكين؟ متى ما تحقق، انتهت اللعبة تجاريا، وانتقلنا من التجارة إلى الشحاذة...

إن محاربة الاحتكار فطرة بشرية، أثبتتها التجارب الإنسانية... المثال الأشهر هو شركة ستاندر النفطية الأمريكية... لقد كانت شركة عملاقة، مهمة للاقتصاد الأمريكي، توزع أرباحا بمعدل 65% لمدة تجاوزت عشرين عاما، توظف عمالة أمريكية، تستثمر في الخارج والداخل (وكل العناوين البراقة الممكن سعودتها)... ولكن الأدلة كانت تقول إن quot;الشركة كانت تفرض أسعارا عالية جدا عندما لا تجد منافسة، وخاصة عندما تزداد فرص عدم دخول منافس لها في قطاع ما، ولكنها تضغط الأسعار بشكل قوي إلى النقطة التي لا تدع لها إلا القليل من الأرباح وأحيانا لا تترك شيئا، وهذا يعني أن ربحية منافسيها أيضاً تلاشتquot; اهـ. لو قيل إن هذا المقطع قد قيل في سابك لربما لم يكن خاطئا، فهي تضغط أسعارها للحد الذي لا يمكن منافسيها من دخول السوق كما في بعض المنتجات الصينية... وهي ترفع بالأسعار إلى عنان السماء عندما لا يكون هناك منافس شرس كما في الحديد... المحكمة الدستورية العليا الأمريكية في عام 1919 فككت شركة ستاندر النفطية إلى quot; 34 quot; شركة، فصحة الاقتصاد الأمريكي على المستوى البعيد كانت تحتم تفكيك هذه الشركة التي تنتزع من الاقتصاد الأمريكي أكثر مما تضيف إليه. فهل تعتقدون أن الأمريكان الممعنين في الرأسمالية كارهون لشركات بلدانهم، أو أنهم كلهم الأم quot;تريزاquot;، مشفقون على ساكني الأزقة؟ الحقيقة أنهم خائفون على مصالحهم الاقتصادية ويعرفون أن الموت كل الموت يكمن في تحكمية محتكرة لمفاصل الاقتصاد، ويدركون خطورة انفراد مصارع وحيد في الحلبة مهما كان ودودا ولطيفا، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة في كل مكان.

حجتان قد تتترس خلفهما سابك. الأولى أنها ليست محتكرة وهذا غير صحيح واقعيا فإمدادها بمواد أولية بأسعار متدنية، وضمان كميات مؤثرة، وتمددها الجغرافي، وضعف المنافسين محليا، خلال أكثر من ربع قرن، كفل لها أن تكون محتكرة أو شبه محتكرة في السوق السعودي، وquot;شبه المحتكرquot; دوره أخطر من المحتكر لأنه يوهمك بوجود منافسة-هي غير موجودة، فالحقيقة أن هناك قائدا في السوق والمنافسون الآخرون quot;الأضعفquot; يدورون في أفقه وإن لم يوجد اتفاق رسمي... الحجة الثانية أهمية المنشآت الضخمة، وأنا لا أجادل في منافع الاقتصاديات الضخمة، ولكن الحجم يجب ألا يكون هدفا بحد ذاته فإذا تضخم بإفراط فقد يؤدي إلى سوء استغلال الموارد... كما أن وجود منشآت صغيرة ومتوسطة الحجم ودعمها من الحكومات هو العمود الفقري لتنمية مستدامة كما تثبت التجربة الصينية والألمانية وكما يبرهن آخر التقارير الصادرة من البنك الدولي، الذي ينادي بضرورة أن تساهم الحكومات والمنشآت الضخمة في نمو المنشآت الصغيرة والمتوسطة (يوليو 2007)... والحجم يجب ألا يشغلنا عن الهدف الذي من أجله تم إنشاء سابك، فهي لم تولد لتركع مصانع البلاستيك السعودية، بل أنشئت، استراتيجيا، وقبل كل شيء، لتقوية الاقتصاد السعودي عبر دعم الصناعة - فأين تصرفات شركة سابك من هذا الهدف عندما تتعامل مع 800 مصنع بلاستيك سعودي وكأنها تتعامل مع مؤسسات إغريقية؟ لا أتمنى هدم عملاق تبنيناه لسنوات، ولكن مصيبة هذا العملاق أن لديه عمى ألوان، فهو لا يفرق بين البعيد الذي لا بأس في معاملته بكل جفاف، وبين القريب الذي يتوجب عليه دعمه ليقف على قدميه لا أن يتم خنقه بدم بارد...

بناء عملاق كسابك يفترض أن له إسهاما تنمويا فعالا واضح الأثر، فيفترض أنه أدى إلى قيادة المملكة لصناعة البلاستيك، لا مجرد صناعة أكياس القمامة أجلكم الله - وحتى هذه لم تسلم من المنغصات- ويفترض أنه أدى إلى ازدهار الصناعات البتروكيميائية منذ زمن بعيد وليس اليوم نبدأ، ويفترض أنه أدى إلى نشأة كفاءات بشرية كثيفة في هذه الصناعات تقود الاقتصاد العالمي-لا المحلي- في هذه القطاعات، لا أن نجهل حتى كيفية quot;نطقquot; أسماء المنتجات البتروكميائية... سابك نجحت في موضوع quot;الأرباحquot;، ولكن في غيرها أعتقد أن حجتها ليست بذات التماسك... وربما أن هذا هو سبب مبادرات أرامكو لتفكيك احتكاريات سابك بصمت، كما في بترورابغ، وداوو... وليكن، فالأهم هو الصالح العام، وعدم بعثرة الأموال العامة، وضبط الإعانات المجانية المستترة التي يتم استخدامها لتعظيم مكاسب ثلة من حملة أسهم سابك ومن يشاطرها الاحتكار، وإلا فالدولة ليست بحاجة إلى 10 مليارات إضافية تكدسها في البنوك المركزية، الدولة بحاجة إلى تعضيد أعمدة الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل على المدى البعيد، وهذا لن ولا يمكن أن يحدث بدون دعم منضبط للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، مثل الـ800 مصنع بلاستيك، مثلها مثل سابك التي تم دعمها منذ يوم ولادتها قبل 30 عاما، وإلى اليوم... لو لم تتغذ سابك على الثروات العامة وأهمها الطاقة الرخيصة، لكان لها كل الحق أن تفعل ما تشاء، أما وأن الشعب هو من يدفع تكاليف تعملقها فليس من حقها أن تمنع البقية حتى من استنشاق عبق روائح فواكه ارتوت من تراب أراضينا.

*أستاذ قانون في جامعة الملك سعود