برزت (القضية الآشورية) بقوة على الساحة السياسية في المنطقة وحظيت باهتمام القوى العظمى، بريطانيا وفرنسا، إبان الحرب العالمية الأولى وأدرجت على جدول (عصبة الأمم)للنظر فيها. لكن المصالح الاستراتيجية لبعض القوى الدولية حالت دون ايجاد حل معقول لمشكلة الآشوريين و قيام (دولة آشورية)، وترك الآشوريون المسيحيون يواجهون مصيرهم في بيئة سياسية ودينية واجتماعية مختلفة عنهم ومعادية لهم. بعد أن استقرت الأوضاع السياسية لصالح الدول التي نشأت في الشرق الأوسط في أعقاب الحرب بموجب اتفاقية(سايس بيكو)لعام 1918 وقيام دولة العراق الحديث عام 1920 تلاشت أحلام الآشوريين في إقامة دولة لهم ولو على جزء من وطنهم التاريخي (بلاد آشور)، وبدؤوا يسعون للعيش كمواطنين متساوين بحقوق المواطنة والواجبات الوطنية في دولة العراق المستحدثة الى جانب بقية مكونات الشعب العراقي. اليوم وقد انهارت الدولة العراقية وأضحت مجرد مذبح(مسلخ) بشري جراء العنف المستورد(الإسلامي والعربي) و(العنف الوطني) بنسخته الجديدة(الاقتتال الطائفي والذبح على الهوية) واستباحة دماء المسيحيين العراقيين من قبل مجموعات إسلامية إرهابية، تلاشت أحلام الآشوريين حتى بالعيش كمواطنين عراقيين وتحولوا الى نازحين مشردين مهجرين لاجئين في وطنهم(العراق)، هذه الأوضاع المأساوية دفعتهم للبحث عن منطقة آمنة ndash; كامب- في إقليم (سهل نينوى)، ذات الغالبية الآشورية المسيحية، تحتضن ما تبقى أو بالأحرى ما سيتبقى من الآشوريين والمسيحيين العراقيين على أمل أن تحميهم من سياسة التطهير الديني التي تمارس بحقهم. فهل سيجد الآشوريون المهددون بوجودهم ((ملاذاً آمناً))في إقليم(سهل نينوى)، بعد أن ضاقت بهم أرض الرافدين الواسعة التي أضحت ساحة مفتوحة للصراعات المحلية والإقليمية والدولية؟.
في ظل المناخات المحتقنة والمتوترة في المنطقة وتعقد الوضع العراقي وتشعبه من جهة، وغياب الموقف العربي الرسمي من مشروع المنطقة الآمنة للمسيحيين من جهة ثانية، وضبابية الموقف الكردي من هذه القضية من جهة ثالثة، والتناقضات الآشورية- الآشورية وهشاشة الوضع الآشوري داخل العراق وخارجه من جهة رابعة، وغياب الراعي أو الضامن الدولي- وهو الأهم- لمشروع المنطقة المسيحية الآمنة خامساً، تبدو فرصة الآشوريين والمسيحيين العراقيين عامة، في تحقيق طموحاتهم في (سهل نينوى) بجعلها ((ملاذاً آمناً)) يتمتع بشيء من الحكم الذاتي، فرصة ضعيفة وصعبة جداً. فكما هو معروف بالرغم من قوة الأكراد وثقلهم البشري ما كان لهم أن يحظوا بمنطقة آمنة في الشمال العراقي عام 1991 ما لم يكن هناك قراراً أمريكياً وأوربياً بهذا الخصوص. بالطيع كان هدف الأمريكيين وحلفائهم الأوربيين تقويض سلطة (صدام حسين) وتضيق دائرة الحصار المفروضة عليه. لكن بعد التطورات الأمنية الخطيرة والتحولات السياسية الكبيرة في العراق، لا أعتقد هناك مصلحة لأمريكا، المتأزمة بسبب الوضع العراق، أو لأطراف دولية أخرى تدفعهم لفرض منطقة آمنة للآشوريين والمسيحيين، ربما تحظى هذه الخطوة ترحيباً وتأييداً من بعض المنظمات والهيئات الدولية الغير حكومية ولأسباب إنسانية لا أكثر وهذه لا تستطيع أن تلزم أحداً بمواقفها. مع هذا، ونظراً لأهمية استمرار الوجود الآشوري في العراق وتمتعه بنوع من الحكم الذاتي في منطقة آمنة وتأثيراته الإيجابية على مستقبل الشعب الآشوري في معظم دول المنطقة والعالم، خاصة في (سوريا) المحاذية للعراق، وبغض النظر عن موقف وشروط الطرف الكردي أو الأطراف العربية من التطلعات الآشورية والمسيحية في (سهل نينوى) والصعوبات التي تعترض تحقيق هذا المشروع، أرى أنه من المهم جداً أن تتحرك وبدون تلكؤ جميع القوى الآشورية وبقوة من اجل أن يرى هذا المشروع النور في اطار وحدة (العراق الفدرالي)قبل فوات الأوان، ووضع خطط أو استراتيجية قومية شاملة لتحقيق ما تبقى للآشوريين من أمل في أرض الرافدين، بدءاً من توفير الإمكانيات المادية (اللوجيستية) لذلك وتعبئة الرأي العام الآشوري وايجاد مرجعية أو (هيئة قومية) مهمتها التحرك على الساحة الإقليمية والدولية لطرح هذا المشروع على القوى والأطراف الفاعلة والمعنية بالملف العراقي لكسب دعمها وتأييدها. وأرى أنه من المهم جداً التركيز في هذه المرحلة على الأوضاع الإنسانية الصعبة والمأساوية التي يعاني منها الآشوريون والمسيحيون العراقيون، في كسب الدعم والتعاطف مع قضيتهم التي لم تعد مسألة حقوق قومية وديمقراطية فحسب، وإنما باتت مسالة وجود أو عدم وجود على أرضهم التاريخية وهم يتعرضون لسياسة التطهير الديني والعرقي على أيدي المجموعات الإرهابية. جدير بالذكر، أن المؤتمر القومي (الآشوري السرياني الكلداني) الذي عقد في بغداد تشرين الأول عام 2003 كان قد تبنى فكرة(لإدارة الذاتية)، في سهل نينوى، بالطبع لم تكن حينها فكرة ناضجة ومكتملة، لكنها لم تحظ بهذا الاهتمام والتحمس الآشوري الذي نراه اليوم. وهنا تتحمل جميع القوى والمؤسسات الآشورية التي شاركت في ذاك المؤتمر مسؤولية عدم تفعيل ومتابعة تنفيذ مقررات ذاك المؤتمر، خاصة فيما يتعلق بسهل نينوى، في مقدمة تلك الأحزاب( الحركة الآشورية الديمقراطية- زوعا ) راعية ذاك المؤتمر وباعتبارها أكثر الأحزاب الآشورية فاعلة على الساحة العراقية والقومية. فبعد أسابيع قليلة من انتهاء أعمال المؤتمر، تكون انطباع لدى غالبية الآشوريين بأن (زوعا)، قد تخلت عن مقرراته وتوصياته. اليوم، وبالرغم من الاصطفافات الآشورية التي تشكلت على خلفية قضية (سهل نينوى) والتي أبرزت من جديد الى السطح العديد من المشكلات والعقد السياسية والآيديولوجية المتجذرة في الواقع الآشوري( مشكلة أو (عقدة التسمية) والهوية القومية. وجود خلل كبير وشرخ عميق في العلاقة بين الشارع الآشوري ومختلف الأحزاب والتنظيمات الآشورية على اختلاف تسمياتها. انقسام الشارع الآشوري على نفسه، بين مؤيد لضم سهل نينوى لإقليم كردستان بشروط وضمانات، ورافض لهذا الضم جملة وتفصيلاً. انقسام داخل (الحركة السياسية الآشورية) ذاتها وغياب الرؤية الإستراتيجية المستقبلية لديها)نجد أن فكرة الإدارة أو (الحكم الذاتي) في سهل نينوى لاقت رواجاً وتشجيعاً كبيرين من قبل قطاعات واسعة، علمانية مدنية ودينية، من الآشوريين والمسيحيين، داخل العراق وفي الشتات، كنوع من ردة الفعل على الأوضاع المأساوية للآشوريين والمسيحيين في العراق. هذه الأوضاع أجبرتهم على ترك منازلهم و الهروب من مناطق الموت، مدن الجنوب والوسط وبغداد والموصل، والهجرة خارج العراق لمن استطاع لها سبيلاً أو النزوح باتجاه الشمال العراقي الذي يتمتع بالأمن والاستقرار النسبي في ظل الحكومة الكردية. لكن اللافت أن مشروع الحكم الذاتي للآشوريين في (سهل نينوى) لم يحظ بهذا الاهتمام إلا بعد أن طالب به السيد (سركيس آغاجيان)- وزير الاقتصاد ونائب رئيس حكومة إقليم كردستان- في سياق انتقاده لمشروع مسودة دستور الإقليم، وموافقة السيد (عدنان المفتي)- رئيس برلمان كوردستان- على ما طالب به (آغجيان)، كما جاء في صحيفة (ميديا السياسية) الأسبوعية التي يصدرها (الاتحاد القومي الديمقراطي)في كوردستان بتاريخ 10-10-2006، تحت عنوان (الحكم الذاتي للمسيحيين). لا شك، هذا كلام مهم ومتقدم على صعيد تثبيت الحقوق القومية للآشوريين(سريان كلدان) في مناطقه التاريخية، لكن تبقى دوماً العبرة في التطبيق والتنفيذ وليس بالأقوال. وبالطبع، أن ما يريده (الشعب الآشوري) هو أكل العنب وليس قتل الناطور، لكن تسليط الضوء على شخص السيد آغاجيان وهو قيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني ووزير في حكومته وإهمال أو تهميش دور جميع الأحزاب والتنظيمات الآشورية، كلدانية كانت أم سريانية، من قبل حكومة الإقليم، يترك إشارات استفهام وتساؤلات كبيرة لدى الأوساط الآشورية والمسيحية عامة حول جدية ومصداقية الحكومة الكردستانية فيما يخص حقوق الآشوريين والتزامها بخيار الديمقراطية واحترام الرأي الآخر كآلية للحكم. وما يزيد من الشكوك الآشورية والمسيحية حول خلفيات وأبعاد هذا الاهتمام المتزايد بالسيد آغاجيان، تسارع البطاركة البائسين(دلي - دنخا- زكا) الى إغراقه بالأوسمة الكنسية الرفيعة، وكان قد سبقهم الى ذلك البابا بنديكدتوس. إذ لم يسبق لهذا (المثلث البطريركي المشروخ)أن أجمع على تكريم شخصية آشورية(كلدانية/سريانية)، أو حتى (شهيداً) آشورياً مسيحياً قضى في سبيل دينيه وشعبه وأمته بهذا الشكل المثير للجدل. نقول هذا ليس للتقليل من شأن ومكانة السيد آغاجيان، أو التنقيص من أهمية ما يقدمه من خدمات ومساعدات على أنواعها للآشوريين والمسيحيين العراقيين في هذا الظرف الصعب، أياً يكن مصدر هذه الأموال. إن ما يهمنا في هذا الموضوع هو البعد السياسي لما يحصل وما قد ينطوي عليه من مضاعفات سياسية وقومية في غير صالح شعبنا أو على حساب حقوقه القومية، وقد يكون نوع من شراء الذمم لهؤلاء (البطاركة) الخانعين، رؤساء (الكنائس الآشورية) الرئيسية الثلاث، وموافقتهم الضمنية المسبقة على ضم (سهل نينوى) الى (الإقليم الكردي) من غير أن تعرف الشروط والأسس والحقوق التي يضمنها أو يمنحها للآشوريين هذا الارتباط (منطقة آمنة، إدارة ذاتية، حكم ذاتي، إقليم فدرالي، بصفتهم شعب له هويته المتميزة أم أنهم مسيحيين أكراد). إذا يخشى أن يكون السيد (سركيس آغاجيان) ومن خلفه (حكومة كوردستان) قد اشترت ذمم البطاركة، وكلاء الله، وقبلوا بتكريد شعبنا والتخلي عن هويته وخصوصيته القومية، مقابل ضمان حقوق الله (العبادة وبناء الكنائس) في (كردستان) والتخلي عن حقوق الإنسان الآشوري(القومية والسياسية والمدنية والإنسانية). تماماً مثلما تسامح (العرب المسلمين) إثناء غزوهم للمنطقة إزاء الحقوق الدينية للمسيحيين شريطة تعاونهم سياسياً مع العرب المسلمين ضد البيزنطيين مستغلين الظلم البيزنطي على مسيحيي سوريا وبلاد الرافدين ومعظمهم من الآشوريين(السريان). على ضوء الموقف السلبي لـ(طبقة الإكليروس) الذليلة في الكنائس الآشورية السريانية الكلدانية من العمل القومي على مدى نصف القرن الماضي وسكوت رؤساء الكنائس وقبولهم بتعريب الآشوريين(سريان /كلدان) تحت الحكم العربي، من حقنا كآشوريين ونحن نناقش قضية (سهل نينوى)أن نخشى ونقلق ونشكك بسلوك والمواقف الأخيرة للبطاركة. وفي السياق ذاته، لا يمكن فصل أو عزل الزيارة المثيرة للجدل والمرحب بها رسمياً من قبل حكومة كوردستان العراق، التي قام بها مؤخراً بطريرك الكنيسة الآشورية (مار دنخا) للشمال العراقي وتجواله على مدى أسابيع في المدن والبلدات الآشورية والمسيحية، لما يخطط ويطرح بخصوص سهل نينوى ومستقبل الآشوريين في الشمال، خاصة وأنه كان من المفترض لا بل من الواجب، بالرغم من كل المصاعب والمخاطر، أن يذهب مار دنخا الى بغداد حيث مقر الحكومة المركزية للعراق ليناقش معها أحوال ومستقبل الآشوريين والمسيحيين والاضطلاع على أحوالهم في ظل تدهور الأوضاع الأمنية، وسبل تجنيبهم المزيد من التعديات وعمليات القتل وتفجير الكنائس، لكنه تخاذل و لم يذهب. ثم أن سعي (الحكومة الكردية) لضم سهل نينوى إلى إقليم كردستان-وبالطبع الى دولة كوردستان المنشودة- وتضمين دستور الإقليم مادة تمنع إقامة أقاليم فدرالية أو تتمتع بحكم ذاتي داخل إقليم كوردستان، ألا يقطع الطريق أمام مطالب الآشوريين بإقامة إقليم فدرالي أو حكم ذاتي خاص بهم مستقبلاً؟. وجدير بالذكر، هناك المئات من القرى والقصابات الآشورية تسلطت عليها عائلات كردية في الشمال العراقي بقوة السلاح، الأولى بحكومة الإقليم في هذه المرحلة إعادة هذه الأملاك لأصحابها الشرعيين وإعادة المهجرين والمشردين الآشوريين والمسيحيين الى قراهم ومناطقهم، ولا يوجد ما يمنعها من تنفيذ ذلك وهي الآمر والناهي في إقليم كوردستان، لكي تثبت حسن النوايا تجاه الآشوريين والمسيحيين وكسب ثقتهم في أي خطوة تتخذها تجاههم.

كاتب سوري... القامشلي
[email protected]