quot;إنّا كلَّ شيءٍ خَلَقْناهُ بقَدَر quot; (سورة القمر)

إن التأمل العميق في تكوين هذا الوجود وما فيه من مخلوقات، وما جرى فيه من أحداث، من لحظة ولادته الأولى وحتى اللحظة الراهنة، لَيَدُلُّ دلالة واضحة على أن الخالق العظيم قد أبدع هذا الوجود على نهج من السنن (= القوانين) المُطَّردة التي لا تتغير ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل كما وصفها سبحانه فقال تعالى: ((فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْديلاً 0 وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْويلاً)) سورة فاطر 43، وليست العلوم المختلفة ـ في حقيقتها ـ غير اكتشاف لهذه السنن الإلهية، ثم وضعها بصيغة معادلات وقوانين رياضية يمكن استخدامها في تسخير تلك المخلوقات والظواهر.
وقد انتهى العلماء أخيراً إلى أن أعظم ما في هذا الوجود وأكثر ما يدل على وجود الخالق العظيم هي هذه السنن الإلهية التي تنتظم حركة الوجود، ونذكر من هؤلاء العلماء الفيزيائي البريطاني المعاصر (ستيفن هوكنغ) الذي يعد اليوم من أبرز علماء الفلك والرياضيات في عصرنا الحاضر، فقد صرح قائلاً: (لقد كشف العلم أخيراً مجموعة من القوانين التي تدلنا ضمن الحدود التي رسمها مبدأ الارتياب quot; Uncertainty Principle quot; كيف سيتطور الكون مع الزمن لو عرفنا وضعه في زمن معين، وهذه القوانين مرسومة من قبل الله الذي اختار هذه الصورة الأولية للكون لأسباب لا يمكن أن نأمل في فهمها، فذلك ولاشك، في مقدور الكلي القدرة)(1)، أي إن الله عزَّ وجلَّ هو وحده الذي يعلم أسرار صياغة هذه القوانين على هذه الصورة التي لا أمل لنا على الإطلاق في أن ندرك علة كونها على هذه الصورة التي هي عليها، ولكن حسبنا أن ندرك وجودها، وأن نفهم آليات عملها لكي نتمكن من تسخيرها على الوجه الصحيح.
وترجع أهمية البحث في سنن التاريخ إلى أن كشف هذه السنن، ومعرفة شروط عملها، يجعلنا أقدر على فهم مسيرة التاريخ والتعامل الإيجابي مع الأحداث، وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلاً عملياً بقصة الفاتح العسكري الشهير (ذي القرنين)(2)، لكي ندرك من خلال قصته كيف يمكن أن تُذلِّل معرفتنا بالسنن العقبات التي قد تعترضنا في هذا الوجود، فقد استطاع ذو القرنين أن يحقِّق في حقبة قصيرة جداً من عمر الزمان فتوحات عسكرية واسعة، في مشارق الأرض ومغاربها، لم يحققها قبله ولا بعده أي فاتح آخر في التاريخ، وذلك بفضل ما أعطاه الله عزَّ وجلَّ من علم بالأسباب كما جاء في التعبير القرآني البليغ ((وَيَسْألونَكَ عن ذي القَرْنين قُلْ سَأَتْلو عليكُم منهُ ذِكْراً، إنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرضِ وآتيناهُ من كُلِّ شَيْء سَبَبَاً، فَأَتْبَعَ سَبَبَاً)) سورة الكهف 83- 85 ونستشف من خلال قوله تعالى: ((وآتيناهُ من كلِّ شيءٍ سَبَبَاً)) أن من جملة هذا العطاء الرباني الكريم تفهيم ذي القرنين بعض السنن الإلهية التي أتاحت له تحقيق تلك الانتصارات العظيمة.
ونظراً لما في معرفة السنن الإلهية من أهمية كبيرة من أجل القيام بعمارة الأرض نجد القرآن الكريم يحضُّنا مراراً وتكراراً على السير في الأرض، والتفكر بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود، لكي يلفت عقولنا إلى نظام السنن البديع الذي ينظم حركة كل شيء فيه، لعلنا نعمل على كشف هذه السنن ونسخرها للقيام بأمانة الاستخلاف وعمارة الأرض كما أمرنا الخالق العظيم سبحانه.
وقد حقق البشر من خلال كشفهم لبعض السنن الكونية انتصارات وفتوحات علمية عظيمة كان لها تأثير كبير في تطوير الحياة البشرية، نذكر منها على سبيل المثال تلك السنة التي تنبه لها العالم الرياضي الإنكليزي إسحق نيوتن (1643 ـ 1727) وصاغها في (قانون الفعل ورد الفعل)، فقد تمكن الإنسان بعد أن يسَّر الله له الظروف والإمكانيات المواتية أن يستفيد من خصائص هذه السنة في مجالات عدة، من أبرزها اختراع المحركات النفاثة التي ساهمت مساهمة أساسية بتقدم علوم الطيران، وصناعة الطائرات والصواريخ، وأوصلت الإنسان آخر المطاف إلى سطح القمر (عام 1969 الولايات المتحدة) بعد أن ظل لأحقاب طويلة يتغزل به عن بعد.
وهكذا.. فإن المعرفة الصحيحة بسنن الله في الخلق تمنحنا قدرات باهرة تعيننا على عمارة الأرض، وتحقيق أهدافنا القريبة والبعيدة..

خصائص السنن الإلهية:
وتتصف السنن التي قدَّرها الخالق عزَّ وجلَّ لتنظم مسيرة هذا الوجود بثلاث خصائص أساسية، هي: الشمولية، والثبات، والاطراد.
(1) شمولية السنن: تدل الشواهد العلمية المختلفة على أن السنن الإلهية لا تحكم العالم المادي وحده بل تحكم كل ما في الوجود من خلائق، سواء كانت مادية كالذرة والكهرباء والحرارة، أم كانت معنوية كالعواطف الإنسانية، والسلوك الاجتماعي، وقيام الحضارات واندثارها، وإن مما يدل دلالة واضحة على شمولية سنن الله لجميع المخلوقات قوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ دينِ اللهِ يَبْغونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السَّمواتِ والأرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وإليهِ يُرْجَعون)) سورة آل عمران 83، فالكل خاضع لسنن الله دون استثناء، وكما أن الماء يطفئ النار، وكما أن المعدن يتمدد بالحرارة ويتقلص بالبرودة، وكما أنَّ رَمْيَ الحَجَر في الفضاء يجعله يسقط إلى الأرض بفعل الجاذبية، وكما أن التقاء النطفة بالبيضة يولد الجنين، وهذه كلها سنن مادية مُشَاهَدة ومعروفة، فكذلك هي انفعالات النفس البشرية، وحياة المجتمعات، ومسيرة الحضارات، وتاريخ الوجود، كلها ظواهر محكومة بسنن إلهية دون استثناء.
وقد ورد في القرآن الكريم آيات عديدة تشير إلى بعض السنن التي تحكم تفاعلات النفس البشرية، منها قوله تعالى: ((إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلوعاً 0 إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعَاً 0 وإذا مَسَّهُ الخيرُ مَنوعاً)) سورة المعارج 19 ـ 21، وقوله تعالى: ((وكانَ الإنسانُ أكثر شيئاً جَدَلاً)) سورة الكهف 54، وقوله تعالى: ((كلا إنَّ الإنسانَ لَيَطْغى أنْ رآهُ استغنى)) سورة العلق 6، كما ورد العديد من القصص التي تتضمن الإشارة إلى بعض السنن التي تحكم مسيرة المجتمعات وقيام الحضارات واندثارها.
ويبدي بعض الباحثين تحفظهم تجاه شمولية السنن، إذ يعتقدون أن المادة وحدها تخضع لسنن صارمة يمكن أن تصاغ صياغة رياضية دقيقة، أما لواعج النفس البشرية وسلوك الأفراد وحياة المجتمعات والأمم وقيام الحضارات وسقوطها فلا يخضع ـ في ظن هؤلاء الباحثين ـ لمثل هذه الصرامة، بل يذهب بعضهم إلى ما هو أغرب وأبعد، فيزعمون أن التغيرات النفسية والاجتماعية والتاريخية تجري في حياة البشر بطريقة غيبية غامضة الأسباب (!؟)
وقد عمَّق هذا الظنَّ الخاطئ في الأذهان ما هو حاصل من فارق كبير بين تقدم العلوم الرياضية المادية وتخلف العلوم الاجتماعية والنفسية عن مواكبة هذه العلوم، فقد قطعت العلوم المادية حتى الآن شوطاً بعيد المدى، وقدمت إنجازات علمية هائلة، وأثبتت جدارتها ومصداقيتها في معظم الأحوال والمجالات، وطردت إلى غير رجعة كل الأساطير والأوهام والخيالات التي كان الناس يحسبونها من العلم، وما هي في الحقيقة من العلم في شيء.
أما علم النفس وعلم الاجتماع وبقية العلوم الإنسانية الأخرى فمازالت تعاني من بعض الآفات، فمازالت دراساتها العلمية عند البدايات، ولم تعطَ حتى الآن الاهتمام الكافي الذي أعطي للعلوم المادية، وهذا ما جعل معظم العلوم الإنسانية متخلفة بمراحل واسعة عن العلوم المادية، وهذا ما يفسر أيضاً الظن الخاطئ بأن النفس والمجتمع والتاريخ والحضارات لا تخضع للسنن الإلهية الصارمة كما تخضع المادة.
ونورد فيما يلي هذا المثال لنبين مدى الشقة الواسعة التي باتت اليوم تفصل ما بين العلوم المادية التي حققت الكثير، وبين العلوم الإنسانية التي مازالت عند البدايات، فلو أننا استحضرنا إلى عصرنا الراهن اثنين من عباقرة الفلاسفة والعلوم القدامى، وليكن أحدهما الفيلسوف الإغريقي الكبير أفلاطون (427 ـ 347 ق.م) والآخر هو العالم الرياضي الإغريقي فيثاغورث (582 ـ 507 ق.م) فنرى أن المفارقة تظهر جلية عندما ندخل أفلاطون إلى كلية من كليات العلوم الإنسانية في واحدة من جامعتنا المعاصرة، وندخل فيثاغورث إلى كلية من كليات العلوم الرياضية، فما الذي نتوقع أن يحدث؟
من المؤكد أن النتيجة سوف تدهشنا كثيراً، لأننا سنجد أفلاطون كما كان في الماضي أستاذاً متمرساً، يناقش مختلف القضايا الفلسفية المطروحة على اليوم بساط البحث بكل جدارة وعمق، أما فيثاغورث فسوف نراه يجلس في القاعة مثل (الأطرش في الزفة) غير قادر على فهم شيء مما يقال عن النظريات الرياضية الحديثة، والمصطلحات الجديدة، وأنَّى له مثلاً أن يفهم ما هي نظرية النسبية التي صاغها العالم المشهور ألبرت أينشتاين (1879 ـ 1955م)؟ وما هي الثقوب السوداء؟ وما هي نظرية الكَم؟ وما هو الليزر؟ وغير ذلك من النظريات والمفاهيم العلمية الحديثة التي نسفت معظم النظريات والمفاهيم القديمة !
إن هذا المثال يظهر لنا بوضوح تلك الهوة العميقة التي مازالت تفصل بين العلوم المادية التي بلغت شأواً عظيماً وبين العلوم الإنسانية التي مازالت عند البدايات، ونعتقد أن هذه الهوة تعود بالدرجة الأولى إلى أن التطورات التي تطرأ على النفس البشرية والسلوك الاجتماعي هي تطورات ضئيلة وبطيئة جداً، وهذا ما يجعل فيلسوفاً قديماً مثل أفلاطون قادراً حتى اليوم على مناقشة مقولات العلوم الإنسانية التي لم يكد يطرأ عليها جديد منذ عصر الإغريق وحتى اليوم، بينما تتسم العلوم المادية بالتطورات السريعة والتغيرات الجذرية ما يجعل رياضياً كبيراً مثل فيثاغورث في وضع لا يحسد عليه فيما لو حضر بيننا اليوم.
ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة ملاحظة أن الحجر الذي استخدمه الإنسان البدائي في العصور الغابرة لدفع الوحوش عن نفسه أو اصطياد الفرائس قد تطور مع الزمن فأصبح خنجراً، ثم رمحاً، فسيفاً، فسهماً، فمدفعاً، فصاروخاً عابراً للقارات قادراً على إفناء البشرية في لمح البصر !
أما على المستوى الاجتماعي فمازالت القضايا التي شغلت بال الإنسان البدائي هي نفس القضايا التي مازالت تشغل بالنا نحن أهل القرن الحادي والعشرين !
وهناك في الواقع سبب عملي وجيه لا يجوز إغفاله يمكن أن يفسر تخلف العلوم الإنسانية عن بقية العلوم المادية، وهو أن المادة يمكن أن تخضع للتجربة في المختبر بسهولة ويسر، وهذا ما يتيح لنا خلال زمن قياسي قصير أن نعرف نتائجها النهائية والقوانين التي تحكمها، أما التجارب النفسية والسلوكية والاجتماعية والتاريخية والحضارية فهي تتطلب فترات رصد طويلة الأمد تستغرق أجيالاً عديدة، كما أن إجراء التجارب على الأفراد والمجتمعات ليس بسهولة التجارب على المادة، ناهيك عما تمرُّ به الظواهر النفسية والاجتماعية والحضارية من عقبات أو تحولات أو انتكاسات خلال مسيرتها الطويلة، فتتداخل العوامل المتعلقة بها وتتشابك وتتشوش رؤية السنن التي تحكمها.
ولهذا نجد أن النتائج التي انتهت إليها العلوم الإنسانية حتى اليوم مازالت غير نهائية، ومازالت القواعد الاجتماعية والنفسية التي يقول بها الباحثون في الدراسات الإنسانية بحاجة إلى المزيد من الدراسة والبحث، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن النفس البشرية أو السلوك البشري خارج عن نطاق العلم، أو أنه لا يخضع لسنن إلهية صارمة، لا، أبداً، فليس في مخلوقات الله عزَّ وجلَّ من شيء لا تحكمه سنة إلهية.
أما ما توصل إليه الباحثون من اكتشافات حتى اليوم في حقول العلوم الإنسانية فمازال عرضة للصواب والخطأ بمقدار ما يقترب أو يبتعد عن فهم السنن التي تحكم المجال موضوع الدراسة، وفي الواقع فإن هذا القصور البشري لا ينحصر بالعلوم الإنسانية وحدها، بل هو مشاهد أيضاً ـ ولكن بدرجات أقل كثيراً ـ في العلوم الرياضية التي توصف عادة بالصرامة والدقة، فكم من نظرية رياضية ظلت محلَّ قداسة وتقدير لدهور طويلة ثم نقضت من أساسها، وظهر بطلانها وحلَّ محلها نظريات أخرى جديدة.
والحاصل أن العلوم الإنسانية مازالت إلى اليوم مأزومة وغير قادرة على التعبير تعبيراً دقيقاً عن طبيعة السنن التي تحكم الظواهر الإنسانية المختلفة، ويمكن أن نرجع هذه الأزمة إلى عوامل عديدة، نذكر منها:
bull;إن الاهتمام بالدراسات الإنسانية على مدار التاريخ كان أقل بكثير من الاهتمام بالدراسات المادية الأخرى، وهذا ما جعل الدراسات الإنسانية تتخلف بمراحل عن بقية الدراسات.
bull;إن الظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية شديدة التعقيد وتتداخل فيها عوامل شتى يتعذر حصرها، ومن ثم تتعذر مراقبتها بصورة وافية.
bull;إن العامل البشري كثيراً ما يتدخَّل في تفسير الظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية فينأى بها عن الموضوعية في كثير من الأحوال كما أسلفنا من قبل.
bull;إن المنهج السائد حتى اليوم في البحوث الإنسانية يحتاج إلى إعادة نظر وتقويم، ففي كثير من الحالات يعتمد هذا المنهج على تجارب تجرى على الحيوان ثم تعمَّم نتائجها على الإنسان، للاعتقاد بأن السنن التي تحكم سلوك الحيوان هي السنن ذاتها التي تحكم سلوك الإنسان أيضاً، والواقع أن هذين العالمين وإن اتفقا في بعض الصفات الحيوية فإن بينهما اختلافات جذرية لا يستطيع أحد أن ينكرها، وبخاصة منها تلك الاختلافات النفسية والعاطفية والعقلية والسلوكية التي تميز الإنسان عن الحيوان، وهذا ما يجعل تعميم التجارب الحيوانية على الإنسان خطأ فاحشاً يؤدي بالضرورة إلى أحكام تجانب الحقيقة.
ولا نريد أن نستطرد أكثر من هذا في تفنيد مشكلات العلوم الإنسانية، ولكننا نريد التأكيد على الحقيقة التالية، وهي أننا إذا ما توصلنا يوماً ما لمعرفة سنة اجتماعية أو نفسية أو تاريخية معرفة يقينية فإننا سنجدها لا تختلف عن أية سنة مادية أخرى، بشمولها وصرامتها واطِّرادها، وسوف نجد كذلك أننا نستطيع صياغة هذه السنة الاجتماعية أو النفسية صياغة رياضية دقيقة كما نصوغ أية معادلة رياضية، وهذا ما أثبتته نظرية الشَّواش أو نظرية الفوضى (Chaos Theory) التي تعد واحدة من أهم النظريات الرياضية في العصر الحديث، فإن (هذه النظرية على النقيض مما يوحي به اسمها قد كشفت عن النظام البديع والدقة المتناهية المختبئين وراء الكثير من ظواهر الطبيعة التي تبدو في أعيننا عشوائية للوهلة الأولى، فقد أثبتت لنا هذه النظرية أن عدم قدرتنا ـ نحن البشر ـ على معرفة مسار الأشياء لا يعني أنها تمضي بصورة عشوائية، أو أنها لا تخضع لنظام أو سنن، بل إن عدم قدرتنا هذه تعكس فقط عجزنا عن الإحاطة بظروفها ومعطياتها الأولية)(3)، وبتعبير آخر فإن هذه النظرية تفضح عجزنا عن إدراك السنن الإلهية التي تحكم هذا الوجود، ولا تعني على الإطلاق أن الكون غير محكوم بسنن إلهية صارمة.
(2) ثبات السنن واطرادها: وتتصف السنن الإلهية التي تحكم هذا الوجود بالثبات والاطراد، والثبات يعني أن هذه السنن لا يطرأ عليها تعديل ولا تبديل ولا تحويل، كما قال تعالى: ((فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْديلاً، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْويلاً)) سورة فاطر 43، وأما اطراد السنة فيعني تكرار نتائجها كلما توافرت مقدماتها كما جاء في قوله تعالى: ((يا أيُّها الذينَ آمَنوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُم وَيُثَبِّتْ أقْدامَكُم)) سورة محمد 7، فكلما انتصر المؤمنون لله حقق الله لهم النصر على أعدائهم، وهذه سنة مطردة شهد التاريخ وقوعها مراراً وتكراراً.
ومن الدلائل الدامغة على ثبات السنن الإلهية واطرادها دعوة القرآن الكريم المتكررة للنظر في تاريخ المجتمعات البشرية وأحوال الأمم الغابرة، ومنها قوله تعالى: ((قَدْ خَلَتْ من قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسيروا في الأرضِ فانْظُروا كيفَ كانَ عاقبةُ المُكَذِّبين)) سورة آل عمران 137، فما كان القرآن الكريم ليدعونا إلى النظر والتفكر والاعتبار بقصص الأمم الغابرة لو لم تكن السنن التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات سنناً ثابتة مطردة تتكرر نتائجها كلما توافرت شروطها وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها.. وللحديث صلة.

هوامش:
1- ستيفن هوكنغ: موجز في تاريخ الزمان، ص 147، أكاديميا، بيروت 1999.
2- ذو القرنين: أطلق هذا اللقب على كثيرين في التاريخ، وورد ذكر ذي القرنين في القرآن الكريم، وربما يراد به الاسكندر المقدوني (356 ـ 323 ق.م)، أو قورش العظيم (557 ـ 528 ق.م) أحد ملوك فارس.
3- رابطة العالم الإسلامي: مجلة الإعجاز العلمي، العدد (5) ص 23، يناير 2000.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه