من مفكرة سفير عربي في اليابان

quot;أشي جو شيquot;، عبارة مشهورة باليابان، وتعني بأن كل لقاء إنساني هو لحظة عمر فريدة للتواصل الإنساني ولن تتكرر، ويجب الاستفادة منها في خلق الترابط الاجتماعي، وبأفضل طريقة ممكنة، وبدون أخطاء. هذه الفلسفة تؤكد على أهمية تطوير قدرات التواصل الإنساني، وبرزت في الديانة البوذية-الزن، ومرتبطة بتقاليد حفلة الشاي اليابانية. وحفلة الشاي اليابانية تقليد قديم وله فلسفة معينة ومرتبط بقيم إنسانية فاضلة، وينتج عنه تواصل أنساني فريد. وأهتم المجتمع الياباني ومنذ نشؤه بالتواصل الإنساني بين البشر، وأعتبره عامل هام لاستمرارية البقاء للتعامل مع قسوة الطبيعية وتحديات الحياة المعيشية لتوفير راحة الإنسان. وقد كان العمل المجتمعي المشترك صفة أساسية لعملية الإنتاج الزراعي، ونقلت حديثا للصناعة.
والتواصل في المجتمع الياباني ليس فقط بين الإنسان مع أخيه الإنسان بل أيضا مع الأشكال المختلفة من الطبيعة، الحيوانات والنباتات والجبال والوديان والأشجار والزهور. فالشخصية اليابانية تقدس كلما خلقه الخالق جل شأنه من الكائنات. فتلاحظ مدى رقة التعامل مع الحيوانات، ورعاية الحدائق وإتقان فن تقليم الأشجار وترتيب الزهور، والاستمتاع بجمال الطبيعة من جبال ووديان وانهار.
ويهتم المجتمع الياباني بالطفل منذ ولادته. فيؤخذ للمعبد للاحتفال بولادته، ويربى على حب الطبيعة وما فيها، ويتعلم الكثير عن أخلاقيات التعامل وآداب التواصل الاجتماعي في مراكز رعاية الرضع ومراكز الحضانة الموجهة والمراقبة من قبل وزارة التربية والتعليم والتكنولوجيا. ويبدءا الطفل الياباني ومنذ صغره بخلق دائرة اتصال مجتمعية، وتتسع هذه الدائرة كلما تدرج من صف إلى صف ومن مرحلة إلى مرحلة. يتعرف على زملاء وأصدقاء ويستمر في التواصل معهم وتزداد عدد هذه الدوائر من الزملاء والأصدقاء مع تقدم العمر. ويحاول أن يحافظ على هذا التواصل طوال حياته حتى ولو ببطاقة جميلة في الأفراح أو زيارة في الإحزان.
ويعتبر اليابانيون التعارف المجتمعي كنز اجتماعي ثمين، وتبدءا بمقابلة يتبادل فيها البطاقات الشخصية، وهذه البطاقة تكون الرباط بين الشخصيين مدى الحياة. وحينما تنتهي الدراسة الجامعية ويبدءا العمل يكون لدية كنز من الأصدقاء، يكونون صلة الوصل بينه وبين المؤسسات المجتمعية المختلفة، الحكومية والشركات والمصانع. ومن صفات الشخصية اليابانية الكرم والإخلاص وعدم الخلط بين اجتماعيات العمل والصداقات الخاصة والعائلية.
ومن الجدير بالذكر بأن عملية صنع القرار في اليابان عملية دقيقة وتأخذ وقت طويل، وتكون نتيجة رأي فريق متكامل. وتتصف الاجتماعات بدقة الوقت، وتوصف عادة بقلة الكلام والنقاش. فالياباني مستمع جيد، وينصت بدقة، وقد يغمض عينه للتركيز، وقليل الكلام والمناقشة في الاجتماعات. ويحضر لموضوع الاجتماع ويدرسه بدقة، كما يحضر الاجتماع ولدية جميع التفاصيل والمعلومات ودقائق الأمور. ويبدأ صنع القرار من القاعدة حتى القمة، وإذا قررت القيادة بإجراء تغيرات جديدة على القرار، ترجعه مرة ثانية للقواعد لتدرسه من جديد. ولذلك يأخذ إصدار القرار وقتا طويلا، بينما يكون التنفيذ سهلا وسلسا وملتزما بأخلاقيات العمل ودقة الوقت المقرر.
ونستنتج بأن الرباط الاجتماعي قوي في اليابان، وملتزم بأخلاقيات وقيم مجتمعية راسخة، ليس بين الإنسان فقط بل أيضا مع الحيوانات والطبيعة، وأدى ذلك لتناغم جميل بين الإنسان وما حوله، وأصبح المواطن متزن سلس التعامل مع الدولة والشعب، وخلق مجتمع مترابط منتج. والسؤال ما هو السر وراء هذا التوازن الاجتماعي؟ وهل من الممكن أن نستفيد منه لبناء مجتمعاتنا المستقبلية؟
صدر مؤخرا كتاب للكاتب دانيال جوليمان بعنوان quot;الّذكاء الاجتماعيquot; ولنسهل الموضوع سنسميه باللاسلكي البيولوجي. ويؤكد الكاتب بأن هذا النوع من الذكاء ينمو ويتطور مع غناء تجربة التواصل الاجتماعي، ويحتاج أن تهتم به المجتمعات بتنميته في الأطفال من خلال البرامج التدريبية في مؤسسات التربية والتعليم. وهذا النوع من الذكاء هام في بناء المجتمعات المترابطة والمتزنة والمسالمة والناجحة في عملية نموها الاقتصادي والاجتماعي. وليسمح لي عزيزي القارئ لأن نتدارس معا هذا المفهوم الجديد لأحد أنواع الذكاء الإنساني.
ولنسهل فهم الموضوع، نفترض بان العقل البشري هو مركز كومبيوتر ضخم جدا، وبه وحدات مختلفة ومتعددة تصل لمئات الملايين من الكومبيوترات متواصلة مع بعضها البعض من خلال شبكات معقدة ووحدات مقوية. وبهذا المركز جهاز مسح الكتروني يحوي رادار يلتقط جميع الإشارات والتحركات التي تجري من حوله ويرسلها إلى جهاز خاص يحللها ويصنفها ويوزعها على الكومبيوترات الأخرى كل حسب اختصاصه. وتقوم كل وحدة وظيفية متكاملة من الكومبيوترات، بإصدار القرارات بعد أن تتدارسه مع الكومبيوترات المسئولة عن التفكير والذكاء الذهني، ومع الوحدات المسئولة عن الذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي.
ولندرس معا عزيزي القارئ الواقع الحقيقي البيولوجي. يتكون عقل الإنسان من نصفين متوازيين ومتشابهين، الأيمن والأيسر، فالمخ الأيمن مسئول عن النصف الأيسر من الجسم والمخ الأيسر مسئول عن النصف الأيمن من الجسم. ويوصل المخ الأوسط هذين النصفين يبعضهما كما يتواصل مع العمود الفقري الذي يتفرع منه أعصاب تتوزع على جميع أجزاء الجسم. وأحدى وظائف هذين النصفين جمع الإحساسات من ألأعضاء المسئولة عن الحواس المختلفة كالعين للنظر والأنف للشم واليد للمس والإذن للسمع واللسان للتذوق. بالإضافة للحاسة السادسة وهي التواصل اللاسلكي بن الإنسان وما حوله وبالأخص مع أخيه الإنسان. وهذه الحاسة مهمة جدا في التواصل الإنساني ومرتبطة بما سميناه بالذكاء الاجتماعي.
وتنقل الحواس المذكورة جميع المعطيات التي تدور حولنا أو التي نجمعها بالدراسة والبحث، إلى مراكز عصبية مختلفة في العقل البشري. وتتكون هذه المراكز من عدة خلايا عصبية مختلفة المسؤوليات. فالبعض مسئولا عن تحليل ما وصل من معلومات حسية وتحويلها لمراكز أخرى. وهناك مراكز عصبية أخرى تقوم بالتقاط لاسلكي وتحليل ما يجري من إحساسات في عقول الآخرين. وتحتوي المراكز العصبية اللاسلكية على خلايا تسمى بالخلايا المغزلية تلتقط المعلومات بسرعة فائقة وتنقلها للمراكز المتخصصة، وخلايا أخرى تسمى بالخلايا المرآتية تعمل كالرادار تنظم العمل بينها وبين الخلايا المرآتية في الأشخاص الآخرين. وسميت بهذا الاسم لتشابهه وضيفتها مع عمل المرآة حيث تنقل الصورة، وهذه الخلايا تنقل الأحاسيس من عقل إنسان إلى الإنسان الأخر. وتقوم هذه الخلايا بمراقبة وتحليل ما يجري في عقول الآخرين قبل أن تظهر بأعراض معينة في الوجه كتقلص عضلات ألوجهه مع الابتسامة أو الغضب.
ولنكرر بأنه من المهم أن نتذكر بأن ما يحتويه عقل الإنسان من شعور وأحاسيس سلبية أو ايجابية نحو الشخص الأخر تكون بارزة ومستقبلة لاسلكيا قبل أن يظهرها بمظاهر الابتسامة أو الحزن، وحتى لو حاول أن يتظاهر العكس فقد يكون حزينا أو غاضبا فيبتسم، وتظهر الابتسامة على ألوجهه ولكن الخلايا العصبية المرآتية تلتقط ما في داخل المخ من أحساسات وليس ما هو بارز على الوجهة. ويتميز بعض الأشخاص بتدريب هذه الحاسة وتقويتها بالخبرة والتدريب. وهناك جهاز متخصص لينظم ويبرمج عملية الالتقاط اللاسلكي هذه، ويسمى quot;أميجدالاquot; وهو جهاز الإنذار المبكر ويشبه شكل اللوزة ويقع في المخ المتوسط.
والجدير بالذكر بأن هناك عملية في المخ تسمى quot;اللدنة العصبيةquot; وتعني بأن الخبرة المتراكمة من التعامل والتواصل الاجتماعي تؤثر على الخلايا اللاسلكية، فتكبر حجمها ويزيد عددها وتتحسن وظيفتها، كما أن شبكة الاتصالات تنمو وتزداد سرعتها وتناسق عملها. وهذا يؤكد بأن الذكاء الاجتماعي يمكن تطويره وإنمائه بتدريب الطفل وتعليمه وإعطاءه الفرصة لبناء شخصيته وتحمل المسؤولية والتعامل مع مشاكله الشخصية بدون تدخل الوالدين. فتدخل الوالدين ومحاولة حل المشاكل يفقد الطفل نمو خبرته في التعامل مع مشاكل المجتمع ومشاكل الحياة ويؤخر ويضعف نمو ذكائه الاجتماعي، ويقلل عدد هذه الخلايا ويصغر حجمها. ويعتمد نجاح علاقاتنا الاجتماعية- العلاقة بن الأبناء والآباء، والعلاقة بين الزوج والزوجة، والعلاقة بين الموظف ومسئوله، وعلاقة المواطن بوطنه وحكومته وشعبه- على مدى نمو وتطور الذكاء الاجتماعي. وهو ذكاء هام لخلق مجتمع متوازن، يحترم أفراده بعضهم البعض، ويتقبلون ويتحملون اختلاف بعضهم عن البعض الأخر، ويتعاونون كمواطنين بين أبناء الشعب وقادته وحكومته، ويكونون قوة إنتاجية متراصة.
. ويوصف الأستاذ جوليمان التواصل الاجتماعي بتراقص بالية بين عقل وأخر يرسل أشارات لاسلكية ويستقبلها بتناسق دقيق. كما يترافق هذا التواصل والتفاعل الاجتماعي بين البشر بتغيرات متعددة تنتج عنها إفراز مواد كيماويه نسميها بالهرمونات تنظم كل عضو من أعضاء الجسم من القلب إلى الجهاز الهضمي وحتى جهاز المناعة. فحينما يكون هناك تواصل إنساني جميل تنقل فرحة الشخص وابتسامته من خلال الجهاز البيولوجي ألاسلكي إلى العقل الأخر فتبرز السعادة والأحاسيس الجميلة. وهذا الإحساس يؤدي لإفراز خلايا المخ مواد كيماوية تقود بتنشيط خلايا الجسم المختلفة. فمثلا تنشط نقي العظم لإنتاج أعداد كبيرة من كريات الدم البيضاء وتقوية وظيفتها فيزداد انقسامها وتكاثرها ويزيد عددها ويطول عمرها الافتراضي، وتنمو حجمها وتتطور وظيفتها. وكما تعلم عزيزي القارئ بأن الكريات البيضاء مسئولة عن حماية الجسم من الأمراض والمكروبات، فتنتج المواد التي تقضي على الجراثيم كما تقوم بالتهام الجراثيم والقضاء عليها. والعكس صحيح حينما نقابل شخصا عابسا أو غاضبا تنتقل الصورة إلى عقولنا فنتضايق ونحزن فينتج الجسم هرمونات تؤثر أثر السم على كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، فتضعف خلاياه وتقلل انقسامه وتقرب شيخوختها.
ويناقش الأستاذ جوليمان في كتابه أيضا أهمية الذكاء الاجتماعي في دقة الانطباع الأولي عن الأشخاص، وقوة الشخصية لدي بعض القيادين، وسهولة تعرف البعض على كذب الوجه. والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين يلعب دورا في تنمية العقل وترتيبه فالخبرة الاجتماعية تنحت عقولنا وتغير شكل وحجم وعدد الخلايا العصبية والشبكة الموصلة. فالتواصل الجميل بين الزوج والزوجة مثلا تشكل شبكات التواصل في المخ وتغذية بتطوير الذكاء الاجتماعي، وبالعكس العلاقات السيئة الطويلة الأمد قد تضعف شبكات التواصل وتؤدي إلى ضمورها مع الوقت وسوء وضيفتها. وهذه الاكتشافات الجديدة تؤكد بان العلاقات الاجتماعية تترك اثر بارز في الذهن الإنساني وتوجهه ذكاءه الاجتماعي وتنعكس على تطور ونمو الذكاء العاطفي والذكاء الذهني للتطور، فالسعادة والتعاسة معدية تنتقل انتقالا لاسلكي من شخص إلى أخر.
ويطرح الأستاذ جوليمان فكرة هامة أخرى، وهي أن كومبيوتر المخ مرتبط ببرنامج تشغلي يعتمد على القيم والأخلاقيات الإنسانية. وحينما يتعارض السلوك الإنساني مع هذا البرنامج التشغيلي الأخلاقي، فمثلا بسلوك لا أخلاقيا، يبدءا المخ يعاني ويجهد وتظهر أعراض الاضطراب والإجهاد، وتنتهي بفقد التوازن بن العقل والذهن والضمير والجسم. ويؤدي ذلك إلى إفراز كمية كبيرة من مواد كيماوية تسمم الجسم وتسرع من قصور عمل الخلايا وتلفها. وقد ينتهي الإنسان بإمراض القرحة والضغط والكولسترول، والسرطان، ومعها السكتة القلبية والشلل النصفي الدماغي. مما يسرع شيخوخة الخلايا وقصر عمر الإنسان. ولنتذكر بأن المصدر الرئيسي لمادة الكولسترول هو الطعام، ولكن في حالة الضغوط النفسية والمشدات أللأخلاقية بين السلوك والضمير تزداد كمية بعض الهرمونات التي تقوم بصنع كميات كبيرة من الكولسترول في الجسم، والذي يترسب في الأنابيب الناقلة للدم، الشرايين، فتنسد. ومثلا حينما تنسد شرايين عضلة القلب، يصاب الإنسان بالجلطة مما يؤدي لتموت جزءا من عضلة القلب. أو قد تنسد شرايين المخ فيصاب الشخص بالشلل الدماغي النصفي.
فهل سيهتم تعليمنا في الوطن العربي بالذكاء الاجتماعي؟ لنستطيع تربية أطفال سعداء، ولنغذي زيجاتنا بالبهجة والسعادة، ولنحول مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات الفريق الواحد المفعم بالحب والتسامح والإنتاجية. والى لقاء.