يبدو أن الحكام العرب ndash;أو بعضهم على الأقل- قرر هذه المرة الإقلاع عن سياسة 'تلبيس شعوبهم العِمَّة في مؤتمرات القِمَّة'، ولست متأكداً من وضوح مصطلح 'تلبيس العمة' لدى جميع المتحدثين بالعربية باختلاف بلدانهم، 'فتلبيس العمة' عند أولاد البلد المصريين يعني 'التظبيط' بلغة شباب هذه الأيام، كما يعبر عما يطلق عليه العراقيون 'الكشمرة' أو 'الكيلوات'، باختصار يعني أن تقنع أحدهم أن أحواله صارت أو ستصير مائة فل وعشرة بالتعبير المصري، و'كلِّش زين' بالعراقي، فيما هي في الحقيقة متنيلة أو حتتنيل بستين نيلة.
تفاءلت خيراً بقرار السعودية خفض مستوى تمثيلها في قمة دمشق إلى مستوى سفيرها لدى الجامعة العربية، وخفض مصر لمستوى مشاركتها إلى مستوى وزير الخارجية، وقبل أن يسارع أشاوس العروبة بالظن أن سبب تفاؤلي هو عدائي للعرب والعروبة، وإلى أملي في فشل مؤتمرهم لصالح مخططات الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، أسارع فأوضح أن تفاؤلي هو بعدم وضوح نية حكامنا الأجلاء هذه المرة لإعداد عِمَّة في مؤتمر القمة، ليتم تلبيسها بالكبس أو بالقلوظة لشعوبهم المغلوبة على أمرها، وإن كنت أشك أن بعض مناضلينا وأشاوسنا قد أدمن لبس العِمَّة أو الطرطور، سواء كان بزر أو بدون زر، ويزعجه هذه المرة أن يسير حاسر الرأس، فتظهر للعالم عورة صلعة الرأس العربية، وما يكسوها من حصى ورمال وأخاديد مقفرة.
إنهم هذه المرة يعلنون في صراحة غريبة عليهم وعلينا أنهم مختلفون (مثلما يختلف جميع خلق الله)، وأن حجم الخلافات التي استعصت على الحل بينهم لا تسمح بعقد قمة لتبويس اللحى أمام الكاميرات، وتبادل الضرب تحت الحزام والتقاذف بالشتائم في الجلسات المغلقة، ليخرجوا علينا في النهاية ببيان تضامن مثل 'شربة الفول النابت'، وهذا أيضاً مصطلح عامي مصري، يطلق على الشيء الذي لا لون ولا طعم ولا رائحة له، أو 'لا يودي ولا يجيب'، أو كما قالت العرب 'لا يسمن ولا يغني من جوع'.
أن يعلنوا أنهم مختلفون يعطينا الأمل أنهم سيسعون لتسوية أمورنا وحل خلافاتنا في المستقبل، بعكس ما دأبوا عليه من تغطية وتعمية، وهي السياسة التي ننسبها للنعامة، مع فارق أن النعامة ربما تخدع نفسها، فيما هؤلاء يحاولون -وإن عبثاً- خداع شعوبهم، التي لا تمتلك غير التظاهر بتصديقهم، لعل وعسى يأتي يوم فيه يصدقون.
لقد اعتدنا على اشتعال الخلافات بين سياداتهم وجلالاتهم، وتبادل المهاترات على المحطات الفضائية، ثم فجأة وبلا مقدمات يتم الصلح وتبادل الأحضان وتبويس اللحى، وهذا يعطي انطباعاً بأن خلافاتهم مجرد مشاحنات شخصية، موقوتة بتغير واعتدال أمزجتهم السامية، ليقرروا فجأة تغيير اللعبة من لعبة خصام إلى لعبة صلح، بغض النظر عما يرزح فيه واقع شعوبهم من عشوائية ومشاكل وتصدعات وانفجارات، فالخلافات والضغائن الشخصية هي فقط التي يمكن ndash;مع توافر صدق النية- تجاوزها في جلسة صلح داخل خيمة بدوية، تقدم فيها أقداح القهوة قبل وبعد التهام الثريد وقطع ضخمة من لحم الضأن، أما الخلافات الموضوعية الناتجة عن اختلاف الرؤى والمصالح فتحتاح لمباحثات جادة ودراسات، ولضغوط على الأطراف التي تهدر ما يشير به المتخصصون والعلماء، ليمكن في النهاية ndash;وأيضاً بافتراض توافر حسن النية الغائبة دائماً- الوصول ليس إلى حلول ترضي جميع الأطراف، فهذه لعبة النفاق والتلفيق واللا حسم، ولكن الوصول إلى الاتفاق حول الأمثل والأكثر إيجابيات والأقل سلبيات على واقع تلك الشعوب المستسلمة لقدرها.
تعطينا بوادر تغيير الأسلوب الأخيرة الأمل في صدق توجه حكامنا نحو الواقع لتغييره أو إعادة تنظيمه على أسس جديدة ومعايير جد مختلفة، معايير مرتبطة برفاهية الشعوب، وليس بالجري وراء شعارات أيديولوجيا العروبة وثوابتها التي أوصلتنا إلى الحضيض، وصرنا بفضلها في نظر العالم حالة مرضية مستعصية، يتشاورون ويتحيرون كيف يعالجونها، فيستخدمون المساعدات والهبات تارة، وتارة أخرى يلجأون إلى صواريخ الكروز وقاذفات القنابل الثقيلة، فلا يكادوا في الحالتين يحققون نجاحاً يذكر في إخراجنا من الكهوف التي نتحصن فيها، أو في اقتلاع ثقافتنا القروسطية، لنعيش ككائنات بشرية في الألفية الثالثة.
الاصطلاحات المستخدمة أيضاً لتوصيف العلاقات بين حكامنا لا تبشر في حد ذاتها بالخير، فثنائية خصام/صلح تختلف تماماً في مضمونها عن ثنائية أخرى، نكاد لا نعرف عنها شيئاً هي اتفاق/اختلاف، فالفارق النوعي كبير بين محاولات الصلح بين متخاصمين، وبين محاولات الوصول لاتفاق بين مختلفين، فالأولى يعقب نجاحها تبويس اللحى، والثانية يعقب نجاحها تطبيق إجراءات عملية ذات مردود إيجابي على أرض الواقع، كما لا تحتاج محاولات الصلح لأكثر من اجترار أحاديث عن أخوة العروبة وأواصر الدم، وبضع مواعظ عن التسامح من باب 'اللي فات مات'، ليخرج المتخاصمون يتأبطون أذرع بعضهم، ويزفون بشرى الصلح الميمون أمام الميكروفونات والكاميرات إلى شعوبنا العربية المناضلة والمجيدة، لكنهم ما أن يعودوا إلى قصورهم أو خيامهم، حتى يجدوا أن زهور الصلح قد ذبلت تحت شمس مواقفهم الحقيقية المتناقضة، أما محاولات الوصول لاتفاق بين مختلفين موضوعيين، فتحتاج إلى متخصصين وعلماء ودراسات، ثم مباحثات ونقاشات موضوعية طويلة ومرهقة، لكنها تثمر في النهاية وضع أسس عملية دائمة، وترتيبات جديدة وجادة لإزالة نقاط الاختلاف أو الخلاف.
منذ سنوات قليلة مضت فشلت قمة عربية برعاية أمين عام الجامعة الميمونة في رد صدام إلى العقل وجادة الصواب، بعد أن وضع الهمام/ عمرو موسى مبادرة الشيخ زايد تحت المائدة، ورفض تقديمها رسمياً، كي لا يغضب المهيب الركن بطل العروبة والعروبجية، وهي المبادرة التي كانت كفيلة بأن تحفظ لبطلنا حياته وبقايا ولو يسيرة من كرامته المهدرة، علاوة على تجنيب العراق وأهله كل ما حاق بهم بعد ذلك من دمار!!
ولحسن حظ العروبة وسوء حظ العرب أن أمين عام الجامعة حبيب 'شعبان عبد الرحيم' مازال في موقعه كما هو، ومازال كل من لم يغيبه الموت من حكامنا متربعاً على عرشه، وأمامنا الآن على طاولة المشرحة سوريا البعث، المناضلة بالتخريب في لبنان وفلسطين، والتي تقف صامدة دون الوصول بالوضع في لبنان إلى الحد الأدنى من التسوية، وتصر أن تقبض ثمن سحب أياديها المخربة منه، أن تهرب من قصاص العدالة الدولية من نظامها الحاكم المخضبة أياديه بدماء أحرار لبنان.. تقف سوريا التخريبية البعثية صامدة أمام توسلات أنظمة الاعتدال العربية لتسوية مشكلة لبنان قبل مؤتمر القمة، لتحوز القمة حداً أدنى من المصداقية، وليثبت العرب لأنفسهم قبل أن يثبتوا للعالم أجمع أنهم قادرون على حل ولو مشكلة واحدة من مشاكلهم، وأنهم ليسوا مجرد عصابات تتناطح وتتناحر، ولا ترتدع إلا بوصول رجال البوليس من أوروبا وأمريكا.
نحتاج من حكامنا الأجلاء أن يتدارسوا كيف يعيدون ترتيب البيت الفلسطيني الممزق والمهلهل، لتحقيق السلام لشعب دمرته الشعارات العروبية والجهادية، لا أن يقيموا السامر لمسرحية صلح وهمي أخرى بين فتح وحماس، كما فعل 'اليمن غير السعيد'، لتضاف إلى صلح مكة الوهمي، الذي أعقبته حماس بانقلابها المقدس، فالمطلوب تسوية تضع الأمور في نصابها، وليس إرضاء كافة الأطراف على حساب الواقع، ومحاولة التوفيق بين ما لا يمكن توفيقه، بين دعاة السلام من أجل حاضر ومستقبل الشعب الفلسطيني ومعه شعوب المنطقة، وبين المصرين على العداء الأبدي والإرهاب والتخريب، تحقيقاً لأحلام إيران الإمبراطورية، وانسياقاً وراء دعوات تأجيج العداء الديني والكراهية وسفك الدماء في المنطقة وفي العالم.
نحتاج من حكامنا الإقلاع عن نهج 'تلبيس العِمَّة في مؤتمرات القمة'، ليشرعوا في تدارس مشاكلنا باختلاف ميادينها.. نحتاج أن يتعاملوا معنا كجماهير فطنة بلغت سن الرشد، لا كقطعان تسرح خلف ماسك العصا والنافخ في المزمار.
[email protected]